أحد الأفلام الأميركية القديمة يبدأ بجلسة لاجتماع عدد من الصناعيين الأميركيين يتداولون فيها الخطر الكبير الذي بدأ في الظهور في الجزيرة العربية. ذلك الخطر هو أقدام العرب على تأسيس شركة هندسية لتصميم وإنشاء مصانع كيماوية، مما يعني انتقال التكنولوجيا المتطورة إلى الجزيرة العربية. فالعرب لا يتوقع منهم سوى شراء المصانع الإستراتيجية (مصفاة نفط، مصنع بتروكيمياويات، الخ)، أما أن يقوموا هم بتصميم وإنشاء هذه المصانع، فقد اعتبره الصناعيون (الممثلون في الفيلم) خطرا كبيرا يجب مواجهته بحسم من خلال تفجير تلك الإمكانيات والتخلص من بنياتها الأساسية.
فيلم جديد يتحدث عن موضوع أخر. الفيلم يظهر فيه الممثل "روبرت دينيرو" وهو يفكر كيف روبرت بخطة ويباشر اقتراحها للرئيس ليقوم بتنفيذها. هذه الخطة تقوم على اتهام "ألبانيا" بإيواء إرهابيين وثم القيام بانزال المارينز وتدمير الهدف. وينجح روبرت دين يرو في إنقاذ الرئيس من خلال حرف أنظار الرأي العام الأميركي وأبعاده هن الحديث حول الفضائح الجنسية للرئيس الأميركي.
الأفلام الأميركية تعرض التفكير الأميركي تجاه العالم وتطرح قضايا هامة تدور في مخيلة العقل الأميركي.
وعندما سمعت بالانفجارين ضد السفارتين الأميركيتين في إفريقيا، سارعت نفسيا لإدانة الحادث الذي أودى بحياة الأبرياء وانزعجت كثيرا من تشويه اسم المسلمين من خلال ربطهم بالإرهاب.
غير أنني لم استطع أن انطق بكلمة عندما أعلنت الولايات المتحدة ضربها للسودان... تدميرها لمصنع أدوية في السودان... استهدافها لدولة لا تستطيع الرد عليها مضربها، تماما كما حدثنا روبرت دين يرو عن كيفية ضرب ألبانيا (في الفيلم) لكي يتخلص الرئيس الأميركي من فضيحة جنسية. واستحضرت مباشرة ما أتذكره من الفيلم القديم الآخر الذي تحدث عن ضرورة تدمير البنية التحتية لشركة الإنشاءات الهندسية التي تحدث عنها الفيلم.
الرئيس الأميركي متورط بفتاة عمرها 25 عاما، مارس معها أمورا كثيرا في مكتب الرئاسة في البيت الأبيض وعلى مدى 18 شهرا. وعندما تعقدت الأمور ونقلت الفتاة مونيكا لونسكي لمكان أخر بدأت الفضائح تظهر للرأي العام. فهي ليست أول فتاة تتهم الرئيس الأميركي بالمطاردة الجنسية، ولكنها أكثر واحدة تمتلك أدلة، بضمنها أحدى قطع ملابسها التي لازالت تحمل "بقايا" الرئيس.
خرج كلينتون على الرأي العام الأميركي ليعترف بأنه لم يقل الحقيقة، واخرج الشعب الأميركي وزوجته لأنه، وبالرغم من نكرانه سابقا، فان علاقته بالفتاة لونسكي كانت أكثر بكثير مما قال. وقد عبر عنها "بالعلاقة غير اللائقة". ومباشرة بعد ذلك، عاودت لونسكي شهادتها أمام هيئة المحلفين وقالت بان الرئيس وعدها ان يتزوجها بغد انتهاء فترة الرئاسة، مما يضغط بصورة أكبر على الحياة العائلية للرئيس الأميركي، كما أنها استاءت كثيرا لأنه وصف العلاقة بـ"غير اللائقة".
السودان، بلد مستهدف من قبل عدد من الدول لأسباب متعددة، والحكومة في السودان أصبحت أحدى الشماعات الجديدة لنشر الثياب عليها, ولهذا، فإن روبرت دينيرو وخطته لحرف الرأي العام الأميركي تبدوا واقعية بدلا من تمثيلها في ستيودهات هوليوود.
تدمير مصنع أدوية واختراق سيادة دولة في عالم اليوم أصبح دفاعا عن النفس. فالقاضي هو الخصم وهو الحكم. فأين هي الأمم المتحدة. وأين هو التحقيق المستقل، وأين هي الأعراف الدولية، وأين هو القانون الدولي؟
لماذا يتم تدمير البنية التحتية لبلداننا في الشرق الأوسط؟ ولماذا تم تحطيم العراق وتحويله إلى خربه؟ هل صحيح أن كل ذلك من اجل محاربة الإرهاب؟ من الذي أعطى صدام حسين أسلحته التدميرية؟ ومن الذي شجعه لغزو إيران؟ ومن الذي موله وناصره؟ لماذا يتم الانتقام من العراق ومن إمكانيات العراق بينما يبقى النظام سالما دون أي ضرر؟ هل من حقنا أن نسأل؟ لماذا يتم تدريب الفرق الأفغانية على يد المخابرات الأميركية، ثم تقوم أميركا باستهداف "بن لادن" بعد انتهاء الخطر السوفياتي؟ لماذا لا نأمن في بلداننا من أعمال الإرهاب بجميع أشكالها؟ لماذا يتم تدمير البنية التحتية لبلداننا؟ الأفلام الأميركية تعطينا الأجوبة على كثير من الأسئلة المفروضة؟ ويبدوا أن أشجع الناس هم الممثلون والمهرجون، ربما لأننا نعيش في عالم تمثيل وتهريج.
العدد 1 - الجمعة 06 سبتمبر 2002م الموافق 28 جمادى الآخرة 1423هـ