"أف..." كررها عدة مرات بحسرة شديدة وهو يحاول بين التأفف والآخر أن يشرح "المأساة" التي تمر بها الأمة الإسلامية. الشاب كان قد تخرج من الجامعة قبل خمس سنوات وتنقل في عدة مناطق ثم عاد زائرا لنفس الجامعة البريطانية التي تخرج منها. في هذه المرة تغير الشاب كثيراً. زيارته للجامعة ليست لقصد العلم والتعلم، وأنما زارها قاصدا حضور صلاة الجمعة في الجمعية الإسلامية للجامعة.
عندما كان في الجامعة، وأثناء دراسته لم يكن يهتم بصلاة الجمعة أو أي صلاة أخرى، ويفسر ذلك "لقد كنت أعيش الضلال"، أما الآن فقد "اهتديت".
أخونا الذي اهتدى لم يكتف بإقامة الصلاة، وإنما أصبح "داعية"، بل انه لبس ثوبا وأطلق اللحية وامسك بمسواك ودخل جامعته القديمة يشق الصفوف وسط الطلاب الأجانب حتى وصل إلى غرفة صلاة الجمعة ليلقي خطبة ذلك اليوم. خطبته مملوءة "بالحزن" و"الأسى"، وسرعان ما انتهت الصلاة حتى وقف يتحدث للطلاب "لهدايتهم".
"أف..."!! ماذا بك يا أخي؟ "آه... لقد وصلنا إلى درجة خطيرة ومستوى متدن في حياة امتنا الإسلامية". يبدو أن الأخ لازال يعتصره الألم ولا يستطيع بسبب ذلك سوى ترديد الآهات والآلام. وتحت إصرار احد المستمعين إليه، بدأ الأخ يتحدث عن تلك "المآسي". وهكذا بدأ القول: "لقد تحدثت إلى أخوة قادمين من بلادنا الإسلامية وهم لا يحدثونا إلا عن حياة انسلخت من أصالتها... فالكويت مثلاً أصبحت تشبه لوس انجليس وثيابنا أصبحت تشبه الغربيين وأكلنا أصبح على طريقة الغربيين وكل شيء أصبح تقليدا للكفار... أف... أف...". أحد الأشخاص كان يجد صعوبة في تمالك نفسه والسيطرة عليها لكي لا تفلت كلمة "غربية" تزيد من آهات الشخص الذي "اهتدى" وامتهن مهنة هداية الآخرين، ولذا توجه له بسؤال: "ما العمل لكي تخف هذه المأساة والطامة الكبرى"؟ "فلا يوجد حل، سوى بالتخلي عن كل شيء أتانا من الكفار والعودة إلى الإسلام في ملبسنا ومشربنا ومأكلنا ومنامنا ومسلكنا وفي الاعتزاز بكل ما جاء به ديننا، فلسنا بحاجة إلى معجون أسنان وفرشاة ما دام لدينا المسواك ولسنا بحاجة إلى مبان تشبه لوس انجليس و...". وهنا قاطعه الشخص الذي بدأ الحديث معه: "كيف اتيت إلى الجامعة وأنت في مدينة بعيدة؟"... "لماذا تسأل؟ لقد أتيت بالقطار". وهنا كان الرد: "تصورت انك لا تريد تقليد الغربيين. فلماذا ركبت القطار؟". وهنا بدأ الصراخ يتصاعد وبدأ الآخرون ينسحبون خجلاً من هذه الحالة ولكي لا يحسب الطلاب "الكفار" أن المسلمين أصابهم الجنون بعد أن انهوا صلاتهم ذلك اليوم.
ربما يعتقد المرء أن هذه القصة لا يمكن أن تحدث، غير أن واقع الحال هو أن العشرين سنة الماضية شهدت انحسارا في الغزارة العلمية المطروحة في الوسط الإسلامي الطلابي والشعبي. والشخص الذي تحدث بهذه الطريقة لم يكن أفغانيا كما لم تكن "طالبان" قد نشأت بعد. لقد سيطر نهج معين على عقول كثير من القطاعات الإسلامية من مختلف البلدان والمذاهب والمشارب، هذا النهج يعتمد على التحقير والتكفير ورفض كل شيء والدعوة للعودة للأصول كما يفهمها البعض. تنتشر الدعوات التي تحمل في طياتها تجاهل لقيمة الإسلام الحقيقية وجهلاً بحقيقة الرسالة المحمدية التي جاء بها محمد بن عبدالله (ص). هذه الدعوات ليست شمولية في الطرح فقط وإنما تحلل وتحرم كما تشاء، وتطفر وتفسق من تشاء وكأن الجنة والنار وهبها الله لبعض عباده لأخال الآخرين من عباده فيها.
"طالبان" في أفغانستان ليست حالة خاصة بأفغانستان. فالمطلعين على الأوضاع الأفغانية يقولون أن كثيرن من هؤلاء "مخلصين" ولكنهم جهلة لا يفهمون من دين الله سوى ما سمعوه من أحد الأشخاص الذين يثقون به.
فاحد هؤلاء الأشخاص، وقبل أن يتسلم حكماً، ذهب إلى مدرسة للبنات وحمل رشاشاً وصرخ أمام الطالبان والمدرسات: "أي بنت عمرها يزيد على سبع سنوات ترجع للمنزل وإلا رميتها بالرصاص". ذهب بنفسه وأفتى بما شاء وأرسل البنات إلى منازلهن! "طالبان" ظاهرة متواجدة في كثير من مناطقنا الإسلامية، وهذه الظاهرة تمكنت من الوصول إلى ما وصلت إليه في أفغانستان.
"هؤلاء لا يعلمون أنهم يحركون من قبل مخابرات ولا يعلمون أن بعض قادتهم يتاجر بالمخدرات. وحتى لو علموا لا يستطيعون فهم شيء خارج المستوى الذي رأيناه"... هذا ما يقوله من علم بأوضاع طالبان وأمثال طالبان. "طالبان" ظاهرة بدأت تتغلل وتتوسع في أوساط الإسلاميين خلال الثمانينيات والتسعينيات وهي الآن تطالب بالحكم بعد ان حصلت على قاعدة تعتمد عليها.
"طالبان" ظاهرة غذتها المناهج التي تعتمد على استمدت "رخصة" من الله لتكفير وتحقير الآخرين، وان لديها "رخصة" مفتوحة لتفسير الدين وفرضه على الآخرين بحسب ذلك التفسير الذي قد يكون خاضعا لجهل أو لطمع أو لسوء نية.
هذه "الظاهرة الطالبانية" لا تعترف بالإنسان ولا بكرامته ولا تفهم من الدين سوى لبس الثواب، وحمل المسواك، والصراخ على الآخرين، وتحليل دماء من تشاء، كل ذلك في سبيل الدين الذي لا يفمهمه على طريقتهم سوى من عطل عقله.
العدد 1 - الجمعة 06 سبتمبر 2002م الموافق 28 جمادى الآخرة 1423هـ