تمثل الانتخابات الأميركية التي تجرى كل أربع سنوات بصورة منتظمة وتشمل رئاسة الدولة وعضوية مجلس النواب ومجلس الشيوخ والمجالس النيابية في الولايات ومناصب عديدة أخرى... فرصةً للشعب الأميركي للإدلاء بصوته ومن ثم ممارسة الديمقراطية بصورة دائمة، كما لو كانت دورةً مكثفةً في الممارسة الديمقراطية، والتنافس الرئيسي في العملية الانتخابية بين مرشحي الحزبين الديمقراطي والجمهوري.
وقد استمرت الحملة الانتخابية لعدة شهور شملت الولايات كافة، وخاطب كل مرشح مختلف الفئات، طالباً ودها، وعارضاً برنامجه الانتخابي ومقدماً وعوده. وما إن بدأت النتائج الرئاسية في الظهور تباعاً حتى وضع كل مرشح يده على قلبه متابعاً النتائج في كل ولاية، وما إن بلغت النتائج 270 لصالح باراك أوباما حتى أصبح فائزاً، لكنه لم يتحدث ولم يعلن فوزه، وإنّما الذي أعلن الفوز هو أجهزة الإعلام. وانتظر المرشح الفائز حتى يتصل به المرشح الخاسر ويعلن خسارته وفوز خصمه، ويعبّر عن تهنئته له، وهكذا المنافسات الانتخابية كافة. وهنا نسوق الدروس المستفادة:
الأول: التنافس الشديد بين المرشحين وسعي كل منهما لنقد برامج وسياسات الآخر، وأحياناً نقد تاريخه، لكن دون التعرّض لأية مظاهر لنقده كشخصية أو جنسه أو أصوله أو لونه، لأن ذلك من المحظورات. ومن يقع هو أو حملته في أي من هذا المحظورات سرعان ما يعتذر؛ لأن ذلك يعد نقطةً خطيرةً ضد مصلحته في أعين الجماهير الواعية من الشعب الأميركي.
الثاني: إن الحملة الانتخابية ونتائجها تتسم بالشفافية الواضحة، فإعلان النتائج يتم في كل لجنة من اللجان في كل ولاية من الولايات، وهكذا تنجلى الشفافية، ويستطيع كل شخص أن يتابع ذلك بنفسه، ولكن الفائز لا يعلن فوزه ولا يحتفل بذلك إلا بعد أن يعلن الخاسر عن خسارته ويهنئ خصمه.
هذه تقاليد عريقة ومستقرة في المجتمع الأميركي وتستحق الإشادة والإعجاب.
الثالث: إن الخاسر لن يواجه أي نقد أو إهانة من الفائز ولا يواجه عمليات انتقامية كما يحدث في بعض البلاد العربية، فكلاهما يتمتع بحماية قانونية صحيحة وسليمة ولا تشوبها شائبة، وخصوصاً أن مبدأ استقلال القضاء مبدأ مصون ومحترم، ولا تستطيع السلطة التنفيذية في أي وقت من الأوقات المساس أو التدخل في أعمال السلطة التشريعية أو القضائية.
الرابع: إن الخاسر لا يتحدى الجهاز الإداري الذي أعلن فوز الفائز ولا يهدّد بتحويل البلاد إلى حالة حرب ضد الفائز، ولا يتهم اللجنة الإدارية المسئولة بالتلاعب. وهذا هو أبسط مبادئ الديمقراطية الصحيحة، كما تطورت في الغرب، بخلاف العملية الانتخابية في منطقتنا العربية، حيث نشهد دائماً الخاسر يطعن في مصداقية الفائز ومصداقية اللجنة الإدارية وغيرها من الأجهزة مهما تكن الشفافية.
الخامس: انصراف الفائز أو الخاسر للعمل الإيجابي كلٌّ في مجاله؛ سواءً في الرئاسة أو الموقع الذي انتخب من أجله في أي مجال آخر اجتماعي أو اقتصادي، بل أحياناً يمكن التعاون بين الاثنين وخصوصاً إذا كانت المنافسة داخل الحزب كما حدث بين أوباما وهيلاري كلنتون، بل يمكن للفائز أن يأخذ أحد قيادات الحزب الخاسر في منصب مهم كما حدث مع أوباما في فترة رئاسته الأولى باستبقاء وزير الدفاع في عهد الرئيس الأسبق جورج بوش(الابن) روبرت غيتس لفترة في إدارته، ولم يُقِله، بل هو الذي استقال. وهذا يسمى بالروح الرياضية في العملية السياسية والبحث عن الشخصية المناسبة للمنصب وفقاً للكفاءة والخبرة.
السادس: إن قواعد العملية الانتخابية مهما تكن عيوبها ومتاعبها؛ لا يطعن فيها أحد ولا يبحث الخاسر عن تلك الأخطاء ليشوّه صورة خصومه، فالكلية الانتخابية أو المجمع الانتخابي Electoral College بالنسبة إلى الرئاسة الأميركية أحياناً تكون نتيجته بفارق بسيط بين الفائز والخاسر، وأحياناً تكون نتيجة مختلفة عن نتيجة عدد الأصوات العادية، ولهذا فقد يفوز بالرئاسة من حصل على 270 صوتاً من الكلية الانتخابية، وتكون الأصوات العادية للأفراد من المجمع الانتخابي أقل من 50 في المئة للفائز، وأكثر من 50 في المئة للمرشح الخاسر، ولا يثير أحدٌ أية مشكلة، بل يقول الجميع إن هذه هي القواعد الإجرائية الانتخابية المتفق عليها، أما لدينا في معظم الدول العربية؛ فالخاسر دائماً يثير الشكوك ضد عدد أصوات كل محافظة أو منطقة، ويخترع البعض ما يسميه بمفهوم وزن الأصوات، وغير ذلك من الأساليب الإحصائية التي تهدف إلى إثارة الشكوك في الخصم، بل وفي العملية الانتخابية واللجنة المشرفة عليها سواءً كانت تلك الشكوك تتسم بالمصداقية أم لم يكن ذلك صحيحاً. المهم أنه ينتقد كل شيء للتشكيك في مصداقية فوز خصمه أو خصومه بلا منطق سوى منطقه هو، فالرئيس أوباما مثلاً حصل على كافة أصوات فلوريدا بفارق 7,. في المئة عن خصمه الجمهوري ومع ذلك أخذ كافة أصوات المجمع الانتخابي الخاص بالولاية. وهكذا يحترم الجميع القواعد مهما تكن ظالمةً ولا يسعي للطعن فيها أو التشكيك أو التغيير لها.
الملاحظة السابعة؛ هي انصراف المرشح الخاسر ميت رومني وحملته الانتخابية إلى إعادة تقييم أدائهم ونقاط الضعف فيها حتى يمكن تجنبها مستقبلاً، وحتى يمكن معرفة كيف فاز خصمه ويستفيد أفراد الحملة من ذلك خبرةً وعلماً وتكتيكاً في المستقبل، بخلاف الحال لدينا حيث ينصرف الخاسر إلى الطعن في خصمه والتشكيك في اللجنة الانتخابية واتهامها بالتلاعب والغش ونحو ذلك، ولا يفكّر مطلقاً في إعادة تقييم لماذا خسر؟، وما هي جوانب الضعف في حملته؟ ولا يمكن أن ينظر الخاسر لدينا إلى أخطائه، بل دائماً هو على صواب وخصمه الفائز هو المخطئ، ولا يستحق الفوز، وهكذا يظل يعيش في هذا الشعور الغريب.
وهذا هو سر تدهور حضارتنا وقيمنا ونظمنا، إننا لا نبحث عن نقاط الضعف لدينا، ولا نعمل عملاً تراكميّاً يضيف إلى خبراتنا، بعكس الدول المتقدمة التي يعلن قادتها كما حدث في الصين؛ حيث ألقى رئيس الدولة خطاباً تحدّث فيه عن الفساد في الحزب الشيوعي الصيني، ودعا إلى التصدي للفساد، ولا يقول إنه هو أو حزبه فوق الشبهات، أو يقلّل من حجم الفساد أو حجم الأخطاء. وبالطبع في الغرب هذا مألوف ولهذا تقدم الغرب وتقدمت الصين ونحن لانزال في قصائد المدح والفخر لأنفسنا والإشادة دائماً بها والهجاء لخصومنا، كما قال الشاعر:
إذا بلغ الرضيع لنا فطاماً... تخر له الجبابر ساجدينا
ونشرب إن وردنا الماء صفواً.... ويشرب غيرنا كدَراً وطينا.
ونظلّ نردّد مصطلح إسرائيل المزعومة وهي تتقدم ونحن نتخلف ونتراجع. إنني أعتقد أننا في حاجةٍ إلى إعادة قراءة تاريخنا، وإعادة تقييم أنفسنا بنظرة علمية موضوعية، وأن نُسمّي الأشياء بأسمائها، فلا نسمي الهزيمة نكسةً ونظل أربعين عاماً لا نعترف بالهزيمة، ونطالب بنتائج وأشياء كما لو كنا نحن المنتصرين. ونسمّي القمع تصدياً، والتراجع صموداً ومقاومة، وهكذا تفقد المصطلحات معانيها ونظل نعيش في وهْم كبير بفضل عبقرية بعض مثقفينا وكتابنا وفلاسفة النفاق لدينا في العديد من القطاعات.
نحن نسعد بالمديح ونغضب من قول الحق أو الصدق، وهذا من سيكولوجية قديمة ترجع إلى العصر الجاهلي، ولم نستطع التخلص منها للأسف، وغذّاها الشعراء في الماضي ويغذيها بعض الكتاب والمثقفين والقانونيين والسياسيين والإعلاميين وغيرهم في الحاضر. ونتساءل متى نفيق من غفلتنا ونعتبر بالمقولة العربية: رحم الله امرأً أهدى إلي عيوبي... من دون أن ننتقم منه أو نعتبره عدوّاً.
السؤال الذي نطرحه في نهاية هذه الملاحظات السريعة؛ هو: متى نتعلم نحن العرب احترام قواعد اللعبة الانتخابية، ونتوقف عن التشكيك فيها؟، وكذلك متى نتوقف ونتخلى عن روح الانتقام من المرشح أو المرشحين الخاسرين في الانتخابات؟ ونلملم آلامنا وجراحنا إذا خسرنا أو نحسن قبول الخسارة، أو نتعلم أن كلاًّ من الخسارة أو الفوز ليسا نهاية المطاف، ولا يعطي الفائز شيكاً على بياض للانتقام من خصومه.
إن مشكلتنا هي في احتفاظنا أو محافظتنا على ما نسميه تراث داحس والغبراء، أو حرب البسوس، أو روح الانتقام والثأر، بدلاً من أن نعطي الأولوية لحماية الأوطان وتحقيق التقدم والامتناع عن الاستمرار في اجترار الآلام وترديد سلبيات الآخرين والطعن فيهم بمختلف الصفات والأوصاف غير الطيبة.
إننا في حاجةٍ لنتعلم مبادئ وأصول وأخلاقيات الديمقراطية، بل أخلاقيات التواصل، وهي الأخلاق التي عبّرت عنها المبادئ الإسلامية الأصيلة، وعبرت عنها التقاليد العربية التي تغنى بها بعض الشعراء حتى في العصر الجاهلي.
فهل نعمل جميعاً، شعوباً ومثقفين وسياسيين، على استعادة هذه القيم ونشرها حتى يمكن أن نتقدم، أم نظل نعيش في اجترار الذكريات الأليمة الماضية والتحسر على زمن الجنة المفقودة؟
إقرأ أيضا لـ "محمد نعمان جلال"العدد 3721 - الثلثاء 13 نوفمبر 2012م الموافق 28 ذي الحجة 1433هـ