بعض المحن التي تعتري أي مفكر إنساني تتمثل في استطاعته (أو استطاعتها... أن كانت امرأة) في تحقيق الوحدة (في المجتمع، في الحياة... الخ) مع عدم خسران التنوع... في تحقيق الاتفاق دون التضحية بالثروة الكامنة في اختلاف الألوان والأفكار والمسارات... في تحقيق النظام والاتساق دون فقدان الحرية والانعتاق (ذلك أن أي نظام يعني الحد من حرية الإنسان بدرجة معينة)... في توفير الفرصة للحوار دون الضياع في الجدال... في فتح المجال أمام حرية الاختيار دون الانتهاء إلى الفوضى والعبث... في البحث عن جذور ومنطلقات ومبادئ الأعمال دون الانتهاء إلى التزمت الفكري... في توفير المجال للإنسان ليمارس نشاطه التجاري والاقتصادي دون الوصول إلى حالة من المصلحية – الأنانية التي قد تطغى على الإنسان وتدفعه إلى الاحتكار أو الابتذال أو ممارسة أي شيء من أجل الربح المادي فقط.
كيف يحتفظ المرء بكيانه واستقلال شخصيته وفي نفس الوقت يكون جزءا من مجموعة أكبر منه؟ ما هي حقوقه الأساسية التي لا يمكن التنازل عنها وما هي حقوق الجماعة عليه التي تلزمه أن يتنازل عن جزء من حريته الفردية؟ كيف يكون جزءا مكملا لمجموعة بشرية يعيش معها وكيف يحقق التراضي بينه وبين من يشترك معهم في جزء من حياته؟ كيف يفكر بصورة كلية وينظر إلى الصورة الأكبر دون أن يصاب بالشمولية في التفكير؟ كيف يركز على تفاصيل الأمور لحلها دون أن يتحول إلى شخص يبحث عن توافه الأمور؟ متى يسكت الإنسان لأن سكوته من ذهب، ومتى ينطق بكلمة حق؟ ما هو الوقت أو الوضع الذي يدعو المرء للقيام أو الثورة، وما هو الوضع الذي يستلزم الصبر والمسايرة؟...الخ.
أكثر من يعاني هو الشخص الذي يحاول التطرق إلى هذه المواضيع وغيرها مع الإصرار على أبعاد ذاته ومصالحه الشخصية عندما يحدد الفكرة ويعزم على الشروع في مسار معين... وأقل من يعاني، بل ويستفيد من هذه التناقضات، هو الشخص الذي يستهدف تحقيق مصلحته من خلال انتقاء فكرة هنا وفكرة هناك، ولملمة موقف هنا وموقف هناك لتحقيق مصلحة شخصية معينة.
فعندما يتحدث أحد الصربيين في البوسنة أو كوسوفو، مثلا، فإنه يعتبر من "حقه" القيام بما قام به، وأنه اعتمد على "المبدأ" الفكري وعلى "استحقاق حقه" الثابت له تاريخيا وواقعيا. الإسرائيلي الذي يدمر منزلا لفلسطيني ويقيم مكانه مستوطنة أيضا يقول أن هذه "حقه" الذي نص عليه الإله والكتاب المقدس والتاريخ. الشخص الذي يضع يده بيد الظالم ويعين الظالم على المظلوم، أيضا بالإمكان أن يقول أن هذا الموقف مستمد من شرعية دينية أو شرعية سياسية معينة. بمعنى آخر فإن أمثال هؤلاء يصابون بمرض "الانتقائية" لأنهم ينتقون من هنا وهناك مبرراتهم لتحقيق مصلحة أنانية معينة. والذين يصابون بهذا المرض تراهم لا يتورعون عن الادعاء بأيمانهم بشيء ويطالبون "بحقهم" على أساس هذا الشيء، ولكنهم في الوقت ذاته يقومون بأعمال ويتخذون مواقف لا تمت لما يقولون أنهم يؤمنون به.
بعض الدول مثلا لديها قدرة انتقائية عظيمة، فهي تدعو تلك الدول للالتزام بحقوق الإنسان وإلا فرضت عليها العقوبات، بينما تساند وتحارب تطبيق حقوق الإنسان في بلد آخر.
إذا امتزجت المصالح الأنانية بأحقاد معينة فإن الناتج يكون أسوأ من الانتقائية القائمة على المصالح فقط. فالصربي الذي ينتهك حقوق الكوسوفيين لا ينتقي الفكرة من أجل مصلحة معينة فقط وإنما أيضا من أجل التنفيس عن حقد أناس لا يستطيع حتى ذكر أسمائهم، فكيف بالتعايش معهم. الإسرائيلي الذي يهدم فلسطينيا أيضا يبتلي بكرة أناس لا يعترف بهم وبأصلهم. وفوق كل هذا فإن الإسرائيلي يعرض نفسه على العالم بأنه ينتمي لأفضل دولة "ديمقراطية" دستورية ثابتة لها مثيل في "الشرق الأوسط الغارق في الديكتاتورية".
أحد الأشخاص يكتب في صحيفة يومية حكومية وبهاجم في كتاباته المعارضين المعارضين السياسيين ويؤيد اعتقالهم ويتهمهم بالعمالة والجنون والإرهاب والعبث والعنف وعدم الأهلية. الشخص أيضا يستهزئ من أي شخص يطالب بحقوق سياسية ويصر على أن ما هو موجود أفضل من أي نظام ديمقراطي أو غير ديمقراطي في العالم. لا غرابة في هذا الأمر، لأن هناك الكثيرين من هؤلاء الذين باعوا ضمائرهم من أجل الاسترزاق. الغريب أن هذا الشخص كان معتقلا سياسيا وعانى من التعذيب في السجون وحكم عليه بالسجن بعد محاكمة ظالمة وخرج من السجن مرفوضا من قبل الدولة وعاجزا عن الحصول على وظيفة بسبب ملاحقة السلطة له. هذا الشخص سرعان ما وجد الفرصة سانحة عندما تغيرت الأوضاع السياسية وعرض عليه المنصب والمال في مقابل مناصرة سجانه ضد المسجونين الآخرين.
سأله أحدهم عن السر وراء ما يقوم به، فأجاب: "حتى الاتحاد السوفياتي أنقلب على رأسه فمن أنا الذي لا ينقلب على رأسه؟".
والشخص (يساري سابقا) لم يعد يتحدث عن حقوق العمال أو غير العمل، وإنما يشير إلى أن "كلهم حرامية، ولازم نحصل على حصتنا". وهو طبعا يشير إلى أن الجميع (المسئولين وغيرهم ممن هو يعرفهم) يسرقون وينهبون و"الشاطر" هو الذي يستحصل حصته سواء كان ذلك بالتلمق أو بشتم المظلومين، وبأي شيء آخر.
إذا كان المفكرون في محنة من أمرهم ولا يعرفون أفضل الطرق لموازنة الأمور ويستعصي عليهم فهم التلاعب بالمفاهيم والانتقائية وانقلاب التصرفات، فإن "جحا" لم تكن لديه مشكلة في هذا الأمر، بل أنه كان يرى ذلك فرصة جيدة للتخلص من المشاكل. إذ يقال أن جحا كان يمشي خارج المدنية ذات مرة واعترضه اثنان من اللصوص ومسك أحدهما بسكين وصرخ: "اعطنا كل ما لديك من أموال وإلا قتلناك". التفت جحا إلى السارقين وبعد فترة قال لهما: "لدي مال كثير ولكني لن أعطيه إلا لواحد منكما فقط". وهنا سارع أحد السارقين (الغبيين) قائلا: "إذن المال حقي أنا لاني أنا الذي أمسكت بالسكين وأرعبتك في بادئ الأمر". السارق الغبي الآخر قال: "لا، بل أن المال حقي لأني أنا الذي أخبرتك أن هناك شخص يبدو عليه الثراء يمشي في هذا الطريق". كل منهما كان يرفع صوته ويدعي "حقه" في سلب جحا وأمواله، وبدأ الصراخ يعلو بينهما، وثم بدأ يشتبكان بالأيدي، والتفتا بعض فترة وجيرة وإذا بجحا قد فلت من أيديهما وعاد إلى المدينة سالما دون أن يسلم أمواله لأي من السارقين اللذين كانا يعتقدان أن أموال جحا هي "حق" لواحد منهما. ترى لو كان جحا حقيقة فكيف كان سيحل المشكلة مع غير الاغبياء؟
العدد 1 - الجمعة 06 سبتمبر 2002م الموافق 28 جمادى الآخرة 1423هـ