في منتصف ديسمبر (1997) اتجهت جنوبا بسيارتي إلى أحد المدن البريطانية الواقعة جنوب لندن، وكان اليوم ممطرا ومزعجا لعدم وضوح الرؤية. وعند مدخل أحد الطرق السريعة الفاصلة بين المدن وقف أحد الأشخاص على جانب الطريق ينتظر أحد السائقين لإيصاله إلى منطقة جنوبية. وفي هذه الحالة، والجو غير حسن، قررت أن أتوقف لأوصل الشخص إلى منتصف الطريق حيث أن الاتجاه الذي أطلبه يحقق ذلك الهدف. في العادة لا أتوقف على الشارع العام ولكن الرجل بدا عليه وكأنه قد تعطلت سياراته في يوم من أيام ديسمبر السيئة في طقسها.
خلال الطريق عرفت أمر آخر. فهذا الرجل كان قد خرج من منزله منذ الفجر، ومنزله يقه في شمال بريطانيا (بمسافة تبعد قرابة 300 كيلومتر) وإنه سيعود إلى تلك المنطقة خلال اليوم بعد أن يصل إلى المدينة الجنوبية. ففي تلك المدينة الجنوبية توجد شاحنة تنتظر من يسوقها إلى المدينة الشمالية البعيدة والرجل يعمل كسائق، يستأجر بعض أصحاب الشاحنات لسياقة شاحنة ما تنتظر من ينقلها من مدينة أو منطقة إلى أخرى. والشركة التي استأجرت لهذا العمل، وتستأجره بين فترة وأخرى، لا توفر له وسيلة مواصلات وتعطيه خمسة جنيهات "علاوة" للمواصلات. وهذه القيمة تساوي عشر ما مطلوب لنقله بالقطار من مكانه إلى المكان الذي يقصده.
أسأله لماذا كل هذا وهل لا يوجد عمل غير هذا العمل الشاق؟ فيجيبني، أنا في نهاية الأربعينات من عمري وقد عملت سبعة عشر عاما في مناجم الفحم حتى إغلاقها من قبل الحكومة هناك وأغلقت مناجم الفحم. وهذه المهنة متعبة ولكن توفر وسيلة العيش لي ولعائلتي. وهنا أبادره بسؤال: ولكن أليس من الأحسن لك أن تبقى خارج العمل وتحصل على أعانه الدولة التي تغطي مصاريف عن العمل وتغطي جزءا كبيرا من تكلفة السكن؟ وهنا يأتي جواب مباشر "لا يسمح لنفسي أن أحصل على أعانة وأنا أستطيع أن أعمل"... فهي الوسيلة التي بها أحصل على احترامي أمام عائلتي وأطفالي ومن أعرافهم. وأنا لم أتوقف عن العمل والإنتاج منذ صغري، وما أقوم به حاليا ليس بأصعب من العمل داخل مناجم الفحم".
هذه المشاعر اتجاه العمل تمثل رأي الأكثرية من الأشخاص الذين يتعرضون في حياتهم للضغوط والتحديات التي تفرضها طبيعة اقتصاد السوق. هناك طروحات مختلفة حول موضوع العمل والرعاية الاجتماعية. فالنظرية الماركسية تقول "من كل حسب طاقته ولكل كسب حاجته" غير أن هذا الطرح لم يجد له تطبيق عملي لأنه يتعارض مع مفهوم المحفزات التي تدفع الإنسان للعمل أكثر من أجل الحصول على مردود أكبر.
الإنسان الذي لا يحصل على فارق في المردود أن يزيد من إنتاجه. كما أن التجارب التي حاولت تطبيق شيء بسيط من هذا المفهوم أثبتت أن الفساد الإداري يخترق المجتمع يقضي على الإبداع والإنتاجية المتنوعة التي تدفع بعجلة التطور الاقتصادي. في الجانب الآخر تنتج حالة المتطرفة لتطبيق المفاهيم الاقتصادية الحرة الخاضعة للعرض والطلب في خلق الطبقات المرفهة والطبقات المحرمة. ولهذا سعت العديد من الدول لإعادة توزيع الثروة من خلال نظام ضريبي يكون من ضمنه اقتطاع جزء من تلك الضرائب لمساعدة الذين لم يوفقوا للحصول على عمل. مما لاشك فيه أن نظام الرعاية الاجتماعية وفر استقرارا سياسيا وساهم في تقليل الفجوة بين الأغنياء والفقراء. ولكن هذا النظام بدأ يتخلخل مؤخرا لأسباب عديدة. منها أن العبء الذي يفرضه هذا النظام على ميزانية الدولة، واستمرار الضغط باتجاه تقليل النفقات. ومنها أيضا أن العديد من الطبقات السفلى - من الناحية الاقتصادية - قد يجدون الخروج عن العمل والعيش ضمن إطار الرعاية الاجتماعية يوفر مستوى على من الناحية المادية. وهذا يعني تشجيع الكسل وعدم الإنتاج لدى فئة اجتماعية تتوسع مع الأيام هذا المنظور هو الذي يضغط باتجاه تقليص نظام الرعاية الاجتماعية. غير أن تقليص الرعاية يواجه تحديا اجتماعيا وثقافيا.
هناك الدراسات إلي تقول أن القصور من الرعاية الاجتماعية ليس توفير مساعدات مالية لفقراء، وإنما المقصود هو توفير الفرصة لقطاع معين من المجتمع ممن لم تتح له الظروف مستوى معيشي يمكنه من التغلب على تلك الظروف، بمعنى آخر، فإن نظام الرعاية الاجتماعية يقصد منه خلق متساوية لجميع الموطنين من ناحية التعليم والصحة والسكن والبيئة، وتوفير المستوى الأدنى من هذه العوامل يعطي المجال لتساوي الفرص أمام الجميع لكي تقدموا في حياتهم ويخدموا مجتمعاتهم.
ان تقليص الرعاية الاجتماعية يؤدي بالطبقات المحرومة إلى اللجوء لممارسة أنشطة غير سليمة مثل الدعارة والمخدرات وغيرها للحصول على المال والهروب من الواقع. والدول التي لا يوجد فيها نظاما لرعاية الاجتماعية تزداد فيه الجريمة ويصبح النظام ضحية للمستغلين المتنفذين في إدارة الدولة للاستفادة من الوضع غير السليم. لا يوجد حل شامل وكامل لتوفير الرعاية الاجتماعية أو لإطلاق اقتصاد السوق بصورة أكبر مما هو عليه.
الأحزاب السياسية في الدول الغربية تطالب بالمزيد من الرعاية الاجتماعية إذا كانت خارج السلطة. ولكنها سرعان ما تتراجع عن ذلك عندما تصل إلى السلطة وتكون مسئولة عن الميزانية التي تواجه الضغوط الاقتصادية. وعندما تتحدث عن نظام للرعاية الاجتماعية ترعاه الدول في بلاد الغرب، فإننا لا نستطيع الحديث من ذلك في مجتمعاتنا.
ان الدولة في أكثرية المجتمعات الشرق أوسطية غير محايدة من جانب، ولا تملك نظاما للرعاية الاجتماعية من جانب آخر. أنها غير محايدة لأن الدولة تصبح ملك لفئة ولنخبة سياسية معنية تستفيد من إمكانات الدولة بصورة غير محدودة بينما يلهث باقي أفراد المجتمع خلف لقمة العيش. ولكن من الظواهر السليمة في مجتمعاتنا هي القوة الأخلاقية التي أسسها دين الإسلام والتي تحث على التكافل الاجتماعي. ولذلك ترى أن الجماعات الطوعية والمؤسسات الأهلية والصناديق الخيرية تقوم بمهمات عظيمة وجليلة لخدمة المجتمع وحماية الفقراء ومساعدة العوائل لاجتياز المصاعب. وجميع هذه المؤسسات الأهلية تقوم على زكاة الأموال وتبرعات أخيار الأمة. والغريب أن الدولة غير المحايدة تغار كثيرا من هذا النظام الاجتماعي المستمد من ثقافة الأمة.
الدولة غير المحايدة لا تغار فقط من نظام التكافل الاجتماعي وإنما تسعى للسيطرة عليه والتشهير به ومضايقة العائمين عليه. الدولة الاستبدادية تعجز عن توفير نظام الرعاية الاجتماعية وتحارب الجهود الأهلية الساعية لإيجاد البديل. والبديل الأهلي يقوم على أخلافية سليمة تهدف لتوفير الفرصة لأبناء المجتمع لممارسة دورهم من خلال اجتياز المصاعب الآنية. وهذا النظام الأهلي يعزز حالة المسئولية التي تدفع كل شخص أن يسعى من أجل العيش الكريم من خلال جهده وتعبه، كما فعل أخونا البريطاني، الذي ودعته في نهاية طريقي وأنا غارق في الأفكار كما كان غارق في الإمطار.
العدد 1 - الجمعة 06 سبتمبر 2002م الموافق 28 جمادى الآخرة 1423هـ