يُحكى أن أحد الفلاحين كبرت سنه ولم يعد قادراً على العمل وحده. بحث عن شريك يساعده ويقتسم معه محصول الأرض، فوجد شابّاً قويّاً، لكنه جاهل وغبي (أي بطيء الفهم وقليل الفطنة). هيأ الفلاح وشريكه الأرض، ثم زرعاها بذور جزر بحريني، ولما نزل المطر نبت الجزر وكبرت أوراقه حتى غطّت الحقل. نظر الشاب إليها فأعجبته، وظنّ أنها هي الجزر، فقال للشيخ: نقتسم الغلة من الآن، أنا آخذ ما فوق التراب وأنت تأخذ ما تحته. ابتسم الشيخ العالم بأمور الأرض والزراعة والحقول حتى قبل ولادة هذا الشاب، فقال: أنا موافق يا سيد «طرطور»، خذ ما تريد.
جاء الشاب إلى الحقل وحَشّ أوراق الجزر، وذهب لبيعها في السوق فلم يشترها أحدٌ منه، لأنها ليست للأكل من قبِل البشر. أما الشيخ فقلع ما تحت الأوراق وهو الجزر وباعه بربح وفير. وهنا فقط اكتشف «الطرطور» خطأه بعد فوات الأوان، فقال للشيخ نزرع الحقل مرةً أخرى بشرط أن آخذ أنا هذه المرة ما تحت التراب. ضحك الشيخ وقال: حسناً، إذن سنزرع هذه المرة البطيخ فهذا موسمه. فزرع الشريكان البطيخ وانتظرا جني الثمار. وبعد مدة بدأت النبتات الصغيرة تكبر وظهرت في امتدادها أزهاراً، ثم سقطت الأزهار وظهرت مكانها ثمار صغيرة سرعان ما كبرت وامتلأت بالحبوب واستلقت على الأرض تحت ضوء الشمس.
نضجت الثمار واستوى البطيخ، فجنى الشيخ ما على الأرض بحسب الاتفاق وباعه بربحٍ وفير، أما «الطرطور» فما وجد في التراب إلا جذور البطيخ التي لا تغني ولا تسمن من جوع! إذن في نهاية المطاف، فإن الفلاح العاشق للأرض، هو الذي ربح أمام سذاجة «الطرطور». ولله في خلقه، من «الطراطير»، شئون وشجون!
ضحك الدعل والبوبشير من هذه الحكاية وهما ينظران إلى «الطرطور» الجالس معهما في خلوة ذات يوم، ولسنا ندري كيف جمعتهم سويّاً، وكلٌ كان يتبجح بأهميته في هذه الحياة وبما يستطيع عمله. وهنا تفاخر البوبشير في انقلاب مفاجئ على الاثنين موجهاً كلامه إلى «الدَّعَل» أولاً، واصفاً إياه بالهارب كما في قواميس اللغة العربية. وأضاف بأن دَعَلَهُ دَعْلاً أي خَدَعه عن غَفْلة، والدَّعَلُ هو الخَتْلُ والمُخَاتَلَةُ، وهو الخداع والغش. ثم نظر إلى الطرطور تارةً أخرى وضحك ساخراً منه بأنه ما هو إلا وصفة صوص وتتبيلة (سلطة طحينة) من أسرة شهية. وهي تُحضر لأربعة أشخاص، مقاديرها: كوب طحين بحريني، فص ثوم بحريني (غير متوافر حاليّاً بسبب السياسة الزراعية) وإذا توافر يفضل «هرسه حتى يعترف بأنه ليس من فصيلة الثوم»، ملعقة كبيرة عصير ليمون حامض (أيضاً الليمون البحريني غير متوافر حاليّاً مع حموضة الواقع السياسي). وبالغ في الضحك قائلاً: ألا تخجل أيها الطرطور من تقديمك مع الفلافل، والشاورما في المطاعم.
فرد الطرطور موجهاً كلامه إلى البوبشير قائلاً: من ذكرته ذاك لست أنا بل هو شخص آخر من عائلتي، فأنا أنتمي إلى جمع «طراطير»، أي من الرجال الدقيق الطويل، و»الطرطور» هو قلنسوة طويلة دقيقة الرأس تضيق كلما طالت، تشبه القرطاس. فصرخ البوبشير في وجه الطرطور: اصمت، طرطور ويتبجح أيضاً! كلكم تعريفكم مضحك أو مشين. فرد الطرطور: وما دليلك على ما تقول؟ فقال البوبشير: إن كنت لا تعلم؛ فالطرطور هو الوغد الضعيف، وعلى فكرة هي برفع الطاء وليس بالفتح. ورجل طرطور، أي تافه، ضعيف، لا قيمة له، مثلاً: كان «طرطوراً» في المجلس، و»الطرطور» هو العاجز أمام من هم أقوى منه.
إلا أن الطرطور تفاخر مرةً أخرى بأنه كان لباساً للرقيق المماليك الذين تم شراؤهم بداية من قبل الحكام بدءاً بالمأمون العباسي وانتهاء بالأيوبيين في مصر، حتى صارت لهم دولة كبرى لها شنة ورنة.
وهنا وجّه كل من الدعل والطرطور هجومهما على البوبشير بحدة، واصفين إياه بأنه ما هو إلا حشرةٌ تافهةٌ لا تبشر بالخير أبداً، ولم يتم تعرف أحد على هذه الحشرة إلا عندما ظهر أبو بشير في فيلم الكرتون (النحل) بوصفها حشرة متوحشة. فقام البوبشير محلقاً على رأسي صاحبيه مزمجراً بأنه صحيح من جنس الحشرات، ولكن بعض الناس يستبشرون خيراً كثيراً إذا رأوها، فهو حشرة خير وبشرى بالربيع، بالطبع ليس العربي، ولأنكما، موجهاً كلامه إلى صاحبيه، لا تعلمان بأن بعض الناس يسمونني بـ (اليعسوب) وبالتالي يعتقدون بأنني فأل خير (فالكم طيب). حتى أن أحد الكتاب الجزائريين كتب نصّاً مسرحيّاً بعنوان اسمي «البوبشير»، وهو مقتبس من قصة واقعية حدثت لشاعر قضى سنين في السجون الفرنسية، وكان خلالها يشاهد حشرة «البوبشير» تحط دائماً على نافذة زنزانته، ويبقى يصفّر له طويلاً، ليكتب عنه قصيدة، تماماً مثل الشاعر امرئ القيس الذي كتب عن حمامته.
لم يصدّق الدعل والطرطور ما يقوله البوبشير عن نفسه، وفي لحظةٍ نظرا إلى بعضهما ثم أطلقا ضحكةً عاليةً، وفجأةً نفخا بشدة في وجه البوبشير فطار من شدة النفخ بعيداً في الفضاء.
إقرأ أيضا لـ "محمد حميد السلمان"العدد 3720 - الإثنين 12 نوفمبر 2012م الموافق 27 ذي الحجة 1433هـ
القصة منها العبر
شكرا لك و ع السرد للقصة استاذنا