حضرت مع عدد من الناشطين في مجال حقوق الإنسان الاجتماع العام للمنظمة العربية لحقوق الإنسان الذي عقد في القاهرة في نهاية العام 1993. الاستعداد لاستقبال ناشطين حقوقيين عرب قدموا من بعض الدول العربية ومن عدد من الدول الغربية كان يبشر بالخير.
ففي الجلسة الأولى في فندق سفير بالقاهرة تحدث ممثل وزارة الخارجية المصرية ورحب بالمجتمعين ووعدهم بحسن الضيافة تعبيرا عن الدور الريادي الذي تستحقه مصر في الوطن العربي. ثم تحدث مندوب مركز حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة السيد جون باتشي، وشرح الوسائل المتوفرة أمام الناشطين في مجال الحقوق وكيف بإمكانهم الدفاع عن المظلومين من خلال أورقة الأمم المتحدة، وكيف يمكن للمنظمة العربية لحقوق الإنسان بصفتها منظمة غير حكومية العمل لرفع مستوى الوعي في الوطن العربي بالإضافة للدفاع عن المواطنين الذين يتعرضون للقمع عندما يحاولون التعبير عن رأيهم أو عندما يطالبون بحقوقهم...الخ.
الوجوه التي حضرت المؤتمر متنوعة في أفكارها وهذا أمر إيجابي يعبر عن حقيقة موضوع حقوق الإنسان الذي يمثل القاسم المشترك بين جميع الاطروحات والأيديولوجيات. فأي أطروحة لا تحترم حقوق الإنسان ليس لها مجال في حركة التطور الإنساني. بعد مرور يوم واحد في فندق سفير القاهرة لاحظت مع بعض الأخوة تواجدا مكثفا لشاحنات عسكرية ورجال أمن ابتداء من المساء حتى الصباح. سألت أحد الأخوة عن هذا الأمر فرد بأنه "لا يعرف شيئا". غير أن أخبار اليوم الثالث أعلمتنا أن قوات الأمن أحاطت المنطقة واعتقلت أكثر من ستين شخصا من "المتطرفين" في أحياء القاهرة.
خرجت في مساء أحد الأيام للتسوق واتبعت نصيحة أحد الأخوة بالذهاب إلى شارع عبدالخالق ثروت. ولكني أضعت الطريق أثناء المشي إلى الشارع، وجدت مركز شرطة وقف أمام شاب عسكري يبدو أن الشمس قد "شوت" جلده وغيرت لونه كثيراً. الشاب كان على أهبة الاستعداد ومعه رشاش مملوء بالطلقات النارية وأصابعه جاهزة للضغط على الزناد إذا تطلب الأمر. سلمت عليه وسألته عن شارع عبدالخالق ثروت. إلا انه أجابني بلهجة صعيدية "والله ما اعرفش". ثم توجه لصاحبه المتواجد داخل مبنى مركز الشرطة وسأله عن الشارع. صاحبه أيضا لم يعرف أين الشارع، ولذا توجه لي بابتسامة قائلا "والله ما بنعرفش حاجة". توجهت بعدها لرجل مصري يمشي على الشارع وسألته، فقال لي "أنت في الشارع اللي عايزه"!!
اندهشت من العسكري المسلح وصاحبه أيضا اللذين يحرسان مبنى متواجدا في الشارع ولكنهما لا يعلمان اسم الشارع وربما أنها لا يعلمان ماذا يحرسان، ولماذا يحرسان ذلك المبنى. غير أنهما بدت عليهما السعادة والابتسامة لأنهما لا يعرفان "حاجة".
على أي حال كنا مرتاحين جدا داخل الفندق وشعرنا بحرية تامة ونحن نناقش أوضاع حقوق الإنسان ونراجع النشاطات الحقوقية ونقترح وننتقد ونثني ونتبادل الأفكار.
كل هذه الراحة كانت نتيجة الوعود التي كررها ممثل وزارة الخارجية المصرية بحسن الضيافة في بلدنا مصر. وكانت راحتنا واضحة حتى أثناء تبادل النكات مع سائقي التاكسي حول إعادة انتخاب السيد محمد حسني مبارك رئيسا للجمهورية. والمصريون، كعادتهم، شعب يحب النكتة ويحترفها، لا سميا النكتة السياسية.
وأثناء الاجتماعات وعلى مائدة الطعام كان هناك الأستاذ منصور الكيخيا، وزير الخارجية الأسبق في ليبيا. الجلوس مع الكيخيا والحديث معه أمر ممتع للغاية. تجلس معه الساعتين وتتصور انك أمضيت ربع ساعة فقط بسبب الجاذبية في حديثه. لديه الكثير من الخبرات والأفكار. قد تتفق مع بعض أفكاره وقد تختلف مع البعض الآخر، لكنك لا يمكنك أن تختلف بشأن قيمة هذا المرء وجاذبية الحديث معه.
منصور الكيخيا، شخصية معروفة ومرموقة، وأحد أمناء المنظمة العربية لحقوق الإنسان التي اجتمعت في القاهرة برعاية وزارة الخارجية المصرية، خرج بعد انتهاء المؤتمر من فندق سفير القاهرة ولم يعد. اختفى الكيخيا في 10 ديسمبر 1993، في اليوم العالمي لحقوق الانسان. اختطفته أحدى الأيدي. المنظمة العربية التي تسعى للدفاع عن المواطنين أصبحت هي بحاجة لمن يدافع عنها. أحد الأمناء يختطف بعد الانتهاء من الاجتماعات والجميع يشعر بالدهشة ولا يعلم ماذا يقول.
اتصلت المنظمة بالسلطات المصرية، واتصلت عائلة الكيخيا بالسلطات المصرية، ولكن الرد الذي حصلوا عليه هو نفس الرد الذي حصلنا عليه من العسكري الذي كان يحرس الشارع بينما لا يعرف اسم الشارع: "والله ما نعرفش حاجة"!!
السلطات المصرية "ما تعرفش حاجة" ومنصور الكيخيا انتهى كما انتهى من قبله الإمام موسى الصدر. أين هو؟ هل لازال حياً؟ هل أعدم؟ أين خبره؟ أين سجنه؟ أين قبره؟... "والله ما نعرفش حاجة"!!
اختطاف منصور الكيخيا كان أيضا اختطافا للمنظمة العربية لحقوق الإنسان. الحدث أوضح حقيقة مرة وهي أن الضعف والوهن والإهانة وعدم الحرمة ليس أمرا محصورا، انه مر مستفحل يطال كل شخص حتى لو كان أحد أمناء المنظمة العربية لحقوق الإنسان.
أعضاء المنظمة العربية لحقوق الإنسان لديهم احترام كبير في بلدان "خارج" العالم العربي. وقد استطاعت المنظمة أن تتدخل في قضايا معقدة، في بريطانيا مثلا، وأن تحلها لان السلطات البريطانية تحترم المنظمات التي تحمل لواء حقوق الإنسان، أما في بلداننا العربية فان شعوبنا تحتفي في السجون، وتعذب، ويتم اختطاف الشخصيات المرموقة، ولا أحد يستطيع أن يعمل شيئا. والسلطات العربية التي تعرف عدد أنفاس المرء وتتجسس عليه ليلا ونهارا "ما تعرفش حاجة".
الضربة القائمة للمنظمة العربية لحقوق الإنسان هي اختطاف أحد أمنائها وعجزها عن عمل أي شيء. ولسان حال هذا الإنسان في البلاد العربية يقول: "إذا كنتم لا تستطيعون الدفاع عن أنفسكم فكيف ستدافعون عنا"؟
العدد 1 - الجمعة 06 سبتمبر 2002م الموافق 28 جمادى الآخرة 1423هـ