كتب أحد القساوسة في القرن السابع الميلادي رسالة إلى أحد أصدقائه يشرح فيها طبيعة الحكم الإسلامي الذي استبدل الحكم البيزنطي في الشام وفلسطين قائلا: "هؤلاء أصبحوا سادتنا بعد ان مكنهم الله هذه الأيام، غير انهم لا يحاربون ديينا المسيحي، بل على العكس فإنهم يحمون عقائدنا ويحترمون قساوستنا ورجالنا المقدسين، وأيضا يتبرعون لكنائسنا وصوامعنا". (المصدر: Assemani,Bibl-Orient,III,2,p,XCVI).
مبدأ التسامح والتعايش الذي عمل به المسلمون قبل أربعة عشر قرن هو نفسه ذلك المبدأ الذي أنقذ الأوروبيين وأخرجهم من "عصور الظلمات". ففي القرون الوسطى لم تكن أوروبا تعرف معنى التسامح على الأطلاق، وكان أتباع المذاهب المسيحية يعانون من بعضهم الآخر وكان بعضهم يمنع الآخر من ممارسة عبادته، بل أن الجامعات العريقة (مثل جامعة أوكسفورد وكامبردج) كانت تمنع أتباع المذاهب الكاثوليكي من الالتحاق بالتعليم العالي. الحروب الدموية والطاحنة أهلكت الشعوب الأوروبية التي كانت يسيطر عليها رجال الكنيسة والإقطاعيون والملوك الاستبداديون.
كانت بدايات عصور النهضة والخروج من التخلف تتمثل في تحدي الديكتاتورية من جانب ونشر مبدأ التسامح من جانب أخر. التسامح يعني قبول التعايش مع الطرف الآخر الذي اختلف معه في الفكر والأسلوب.
مبدا التسامح كان ولا زال أحد أهم الأسس التي يقوم عليها المجتمع المدني المعاصر. والتسامح له فلسفة بسيطة في الفهم ولكنها صعبة في التنفيذ. ان مجتمعاتنا العربية والإسلامية التي كانت تتصدر العالم في هذا الفهم في أمس الحاجة اليوم لأن تراجع أساليب حياتها لكي تعود لتلك المفاهيم التي نشرت النور والحضارة. هناك سوء فهم لمعنى التعايش.
فالبعض يرى ان مثل هذا الأمر لا يتم الا من خلال "انصهار" الجميع ضمن تنظيم أو كيان واحد وان هذا الأنصار يتم من خلال "تصفية" الخلافات والقضاء على مصادر تلك الخلافات.
غير ان واقع الحياة الإنسانية يتحدث عن استحالة "تصفية" الخلافات، لان الإنسان يختلف عن أخيه الإنسان في الهدف والأسلوب وفي تفاصيل الهدف وتفاصيل الأسلوب وفي تفاصيل كل أسلوب متفرع من الأسلوب الرئيسي. بمعنى آخر فان المجتمعات التي حاولت تصفية الخلافات ربما نجحت في إخفائها لفترة معينة ولكنها سرعان ما تفاجأ بأن عدم الاعتراف بحقيقة الأمر لم ينفع في شيء سوى في تعميق المشاكل وأظهارها بصورة معقدة غير قابلة للتبسيط. والمشكلة الأكبر ان ظهور الواقع (غير المعترف به) بهذا الأسلوب المعقد ينتج عنه أساليب وممارسات لا يتصور المرء كيف بالإمكان حدوثها في أوساط مجتمعه تتحدث عن الأخلاق وعن الشرف والأمانة وغيرها من المفاهيم السامية التي تعتبر من صلب المبادئ الدينية والإنسانية الرفيعة.
الأمم التي استطاعت تجاوز هذه الأزمات الاجتماعية هي تلك التي أمنت بان الخلاف شيء طبيعي واستطاعت أن تتفق عليه طريقة لإدارة ذلك الخلاف. بل أن في كثير من المجتمعات يعتبر الخلاف أمرا ضروريا وليس مسموحا به فقط. والمعارضة في كثير من البلدان تحفظ التوازن في المجتمع من خلال ممارسة دورها "لمخالفة" الحكومة. إلا أن المهم فهمه هنا هو طريقة الخلاق وأساليب التعامل أمور ينبغي أن يكون قد تم الاتفاق عليها، تماما كما هو الحال في لعبة كرة القديم مثلاً.
فلو رجعنا إلى التاريخ قليلا لوجدنا بان مفهوم "البرلمان" قد تطور في الأساس لتنظيم عملية إدارة الخلاف. فكلمة البرلمان التي استحدثت في بريطانيا (في بادئ الأمر) مشتقة من كلمة فرنسية وهي (Parley)، وهذه الكلمة "الاجتماع من أجل الخروج باتفاق" بمعنى أن الاجتماع ليس من أجل التناوش والشتم والضرب، لأن مجال ذلك هو ساحة الحرب وليس ساحة البرلمان. وإذا كان هناك برلمان في الهند أو السند أو غيرهما من البلدان قد شهد معارك باليد فان هذا لا يعني أن البرلمان أنشئ للضرب باليد، وان هذا يعني أن الذين دخلوا البرلمان لم يفهموا الفرق بين ساحة الحرب وساحة البرلمان.
لقد بدأ مفهوم البرلمان يتطور عندما وافق احد ملوك بريطانيا في القرن الرابع عشر أن يجتمع مع "النبلاء" واللوردات لمناقشة مطالب الناي في مقابل موافقة هؤلاء النبلاء على دفع المزيد من الضرائب للملك. وهكذا رفع شعار "لا ضرائب دون تمثيل سياسي" (No Taxation Without Representation). ثم تطورت هذه المؤسسة لتتمكن لاحقا من احتواء جميع الخلافات في المجتمع. فالخلافات يتم عرضها ومناقشتها والاتفاق على ما يمكن الاتفاق عليه داخل البرلمان. أما خارج البرلمان فان الجميع، سواء الموافق أو المعارض، يسارعون في تنفيذ ما تم الاتفاق عليه من خلال "اللعبة" البرلمانية، وهذا هو معنى "حكم القانون".
إدارة عملية الخلاف لا تعني انصهار كل شخص في اتجاه شخص واحد ولا تعني تصفية الخلافات، كما أنها لا تعني أن يقوم احد أعضاء البرلمان بالاعتداء على عضو آخر بالضرب أو الشتم، سواء كان ذلك داخل البرلمان أم خارجه.
إدارة عملية الخلاف تعني أن المجتمع يعترف بالطبيعة الإنسانية ويفسح لها المجال، تماما كما ان الطب وصل إلى نتيجة بان عصرنا الحالي ليس عصر أوبئة وليس مهمة الأطباء الوقاية من الوباء. فالأوبئة تم تقريبا القضاء عليها في إنحاء العالم، وما تبقى منها شيء قليل مما كان يحدث في الماضي عندما كان الطاعون يقضي على مدينة بأكملها. ما هو مطروح في الطب هو "الرعاية الصحية" وليس "تصفية الأوبئة".
والمجتمعات اليوم تتعايش مع أمراض كثيرة مثل وجع الرأس ووجع الظهر وغيرها. والناس لا تذهب للطبيب في كل شيء فكير من المفاهيم الطبية أصبحت مفهومة شعبيا وأصبحت الصيدلية محطة أولية للأمراض الاعتيادية التي يتعايش معها الناس. التسامح أنتج حضارة التعايش من خلال إدارة عملية الخلاف بأسلوب إنساني وهذا هو فحوى الآية الكريمة "وأمرهم شورى بينهم"، والحضارة الغربية وصلت إلى ما هي عليه من خلال إدارة عملية الخلاف القائمة على التسامح. ولو أحيا الله اليوم ذلك القسيس الذي كتب رسالته قبل أربعة عشر قرنا لاستغرب كيف انقلبت الأمور رأسا على عقب!
العدد 1 - الجمعة 06 سبتمبر 2002م الموافق 28 جمادى الآخرة 1423هـ