الناس في إيران جميعهم يتحدثون في السياسة. صحيح أنهم لم يتوقفوا عن الحديث في السياسة منذ لانتصار الثورة، إلا أن الصحيح أيضا هو أن الحديث هذه الأيام أكثر كثافة واشد وتيرة وتسمعه في السوق، في العمل، في الحدائق العامة، وأهم من كل هذا صفحات الجرائد اليومية التي ازداد عددها خلال عام واحد إلى قرابة 25 جريدة يومية تصدر في العاصمة طهران لوحدها. الجرائد اليومية تتحدث في كل شيء وتتفقد المسئولين وتطرح الاستفسارات وتناقش الآراء المطروحة في خطب الجمعية وفي تصريحات المسئولين وفي تصرفات أجهزة الدولة. وخلال هذه الفترة الفريدة من نوعها في إيران تم توقيف جريدة واحدة اسم "خانة" بعد أن نشرت الجريدة رسالة بعثتها إحدى القارئات تتحدى (وبصورة استهتارية) جميع القيادات والمراجع الدينية، مما اعتبر عبورا غير لائق للحرية الصحافية المتاحة. كما تم توقيف جريدة "جامعة" (المجتمع)، إلا أن الجريدة صدرت مباشرة باسم آخر "توس" وبنفس الأعمدة وبنفس طاقم التحرير والتصميم. وفي مطلع آب (أغسطس) 1998 احتجت بعض الهيئات على إعادة إصدار "جامعة" تحت اسم آخر وتم توقيف الجريدة ليوم واحد فقط. وسرعان ما عاودت الجريدة بعدها طرح آرائها بجرأة كبيرة غير معهودة، مما أدى لانتشار مبيعاتها بصورة واسعة.
الصحف الإيرانية تعيش عصرا ذهبيا، وعندما تتم ترجمة المقالات من الفارسية إلى العربية أو الانجليزية تستغرب مما طرحه في الصحافة دون خوف. فرئيس تحرير صحيفة "توس" يرد على رئيس السلطة القضائية ويقول أن الهجوم الذي حدث ضد مكاتبه كان بتحريض رئيس السلطة القضائية. كما ويتم نشر رسائل انتقادية جارحة للسلطات القضائية والبرلمان والمسئولين عن الاقتصاد. النكتة السياسية مطروحة بقوة، والأسئلة تطرح على المسئولين بوضوح وبصورة حرجة. فبعض الصحف تتوجه إلى الشيخ رفسنجاني وتسأله: "لماذا تظل صامتا لحد الآن ولم تعلق على قضية كرباسجي؟".
التعرف بدقة على الأوضاع ولكي يتم إشراكه في صنع القرار وتطوير مؤسسات المجتمع المدني التي تقوم بالأساس على العمل الطوعي للمواطنين.
هنا خشية أيضا من قبل بعض أبناء الثورة من الانفلات واحتمال استغلال هذا الوضع الحر من قبل أعداء الثورة. فبينما يشجع أحد التيارين هذه الحرية الصحافية ويعتبرها من أهم إنجازات السنة الأولى للسيد محمد خاتمي، ينظر التيار الآخر إلى الأمور بحذر شديد خوفا على الثورة والمقدسات.
كرباسجي
محاكمة عمدة طهران السابق السيد كرباسجي كانت إحدى نقاط التحول في مسيرة السياسة الإيرانية الداخلية. فالمحاكمة عرضت على شاشة التلفزيون، وتابع المجتمع الإيراني كله تفاصيل الجلسات الست للمحاكمة وماذا قال القاضي وكيف رد عليه كرباسجي. وعندما صدر الحكم على كرباسجي بالسجن 5 سنوات ودفع غرامة وحرمانه من أي منصب سياسي، ازدادت الصحافة الإيرانية في تغطية الحدث وتبعاته. ففي اليوم الذي استأنف السيد كرباسجي الحكم (13 آب/ أغسطس 1998) ظهر أيضا على شاشة التلفزيون مع افراد حزبه الذي أسسه مؤخراً (ويضم أيضاً ابنه الشيخ رفسنجاني ومحسن نوربخش مدير البنك المركزي). وهذا الظهر ليس اعتياديا، فقد جلس كرباسجي بالقرب من السيد خاتمي رئيس الجمهورية. وفي الفترة ذاتها عرض التلفزيون خبرا آخر لاجتماع مماثل بين رئيس الجمهورية وأعضاء حزب (من الاتجاه الآخرين) يرأسه عسكر أولادي. الموازنة في العرض واضحة، ورئيس الجمهورية أصر على إفساح المجال للمواطنين وضمان الحريات العامة التي نص عليها الدستور.
غير أن الأمور معقدة ومختلفة جدا في إيران. فكرباسجي رئيس بلدية طهران السابق اعترف بأنه مول جزءا من الحملة الانتخابية للرئيس خاتمي إلا أنه أيضا طرح أمورا كثيرة على شاشة التلفزيون أحدثت هزات في المجتمع الإيراني. فقد اتهم أجهزة الأمن بإجبار سكرتيره على الإدلاء باعترافات مغلوطة واتهم السلطات بالعشوائية وتحدث كثيرا عن حصوله على تفويض كامل من الشيخ (الذي عينه في منصبه) لرعاية شؤون العاصمة، والجميع يشهد له بكفاءته في تنظيف وتشجير وتنظيم العاصمة.
من جانب آخر إلى المحاكمة كدليل على قوة النظام الجمهوري الإسلامي الذي استطاع أن يحاكم مسئولا كبيرا وأن يعرض المحاكمة على شاشة التلفزيون.
مظاهر من التعقيد
دستور الجمهورية الإسلامية يحرم على منتسبي القوات المسلحة والحرس الثوري الدخول في الانتخابات والمعترك السياسي الداخلي، ولكن الدستور لا يمنع مسئولي الدولة المدنيين من ذلك.
لذا فإننا نرى أن أعضاء الخدمة المدنية في الوزارات والبلديات ومسئولين في البنك المركزي يطرحون أنفسهم كأعضاء في أحزاب سياسية تتنافس فيما بينها. وهذا بحد ذاته يسبب نوعا من الشلل البيروقراطي، لان المسئول في الدولة الذي يقود حزبا معينا لتجيير صلاحياته لخدمة حزبه. وهذا ما حصل بالنسبة لكرباسجي.
وهناك من يطرح بأن كرباسجي قد لا يكون هو الوحيد الذي قام بمثل هذا العمل. فهل سيتم فتح محاكمات لآخرين؟ وإلى أين ينتهي الأمر؟
من جهة أخرى، فإن الأحزاب السياسية الإيرانية (التي تزداد يوميا) هي أحزاب نخبوية، يؤسسها مسئولين في الدولة أو أعضاء برلمان ويشهرون أنفسهم من خلال أحدى الصحف التي تتبنى أفكارهم. هذه الأحزاب إلا يمكن أن تقوم بدور فعال إلا إذا أصبح لها قاعدة اجتماعية معينة ويمكنها وبالتالي الدخول إلى المعترك السياسي من خلال قواعدها التي تكون أكثر صلابة وقوة وأقل عددا.
فكثرة الأحزاب النخبوية جيد ولكنه غير فعال وهي أشبه بمؤسسات فكرية (Think Tanks) او مجموعات ضغط. الحزب السياسي يحتاج لتوجه فكري – دستوري، وقيادة نابعة من قطاعات هامة من داخل المجتمع، وليس من المسئولين المفترض فيهم الانصياع لمن انتخبه الشعب.
الإشكالية في الحزبية
على أن موضوع العمل الحزبي لازال (رغم السماح له دستوريا) يحمل في طباته الحساسية من فئات المجتمع الإسلامي. وهذا نابع من طبيعة الحزب السياسي الذي نشأت فكرته في منتصف القرن التاسع عشر في أوروبا ووصلت إلى عالمنا الإسلامي من خلال النخب المتغربة أو الشيوعية.
وقد أحدثت النشاطات الحزبية حساسية مفرطة تجاهها عانت منها جميع الأحزاب السياسية الإسلامية. والحديث عن العمل الحزبي في ظل الجمهورية الإسلامية لازال يحمل معه الحساسية الموروثة. غير أن الوضع يمكن أن ينظر له بصورة إيجابية أيضا والقول بأن الأسلوب الحزبي لابد من تطويره خطوة خطوة بما يلائم التركيبة الإسلامية للمجتمع. وهذا بالضرورة سيطرح المواضيع الحرجة بشأن تنظيم العمل السياسي من وضعه الحالي ليصبح ظاهرة حقيقية وقوة فاعلة في المجتمع والدولة.
الدين، المجتمع، الدولة
الإشكالية التاريخية التي عالجها مفكرو الإسلام كانت تتحدث عن الدين والدولة وهل هما من منفصلان أم متداخلان. الحديث اليوم في إيران يتركز حول المجتمع والدولة القائمان على النهج الإسلامي.
بمعنى آخر، ليس الحديث عن دين ودولة، وإنما عن مجتمع ودولة. المجتمع الذي يحتوي على أكثرية مسلمة وأقليات، والدولة القائمة على دستور يوافق عليه المجتمع. فالدستور يحفظ الجانب الديني للنظام – الدولة، والقانون النابع من الدستور يحفظ الأمن الأهلي. الحديث المطروح في إيران هو ليس الفصل بين الدين والدولة، فهذا أمر مفروغ منه وتم حسمه لصالح المبدأ الإسلامي القائل "سياستنا عين عبادتنا، وعبادتنا عين سياستنا". الموضوع المطروح هو العلاقة بين المجتمع والدولة. المجتمع المدني المتكون من المؤسسات الشعبية الملتزمة بالدستور في مقابل أجهزة الدولة المحكومة بدستور الجمهورية أيضا. هل تعطى الصلاحية العليا للدولة لتسيير المجتمع في جميع شؤونه، أم يترك المجتمع حرا في إدارة شؤونه ضمن حكم القانون؟ هل يلزم أن تتدخل الدولة في كل شيء. أن هل من الأفضل أن يسمح لمؤسسات المجتمع (جمعيات مهنية، نقابات، صحافة، نواد فكربة، الخ) أن تمارس دورها في تطوير الممارسة السياسية دون الحاجة لأن تتدخل الدولة في كل صغيرة وكبيرة؟
الاقتصاد والسياسة
تمر إيران في ظروف اقتصادية أكثر صعوبة من الأعوام الماضية بسبب انخفاض أسعار النفط. ورغم تطور الصناعات الإيرانية (صناعة السيارات مثلا) فإن إيران بحاجة لتصدير المزيد من منتجاتها للمنطقة المجاورة لكي تستفيد من التصنيع الجيد الذي ازداد مؤخراً وشمل العديد من الصناعات الأساسية والتكميلية. فالعملة الإيرانية تصرف حسب معدلين، أحدهما رسمي وآخر متوفر في السوق. فالدولار يصرف رسميا مقابل قرابة 300 تومان (3000 ريال) بينما يصرف في السوق بـ 560 تومان (5600 ريال)، هذا الاختلاف، وهذه القيمة للصرف لا تعكس القيمة الاقتصادية الحقيقية للعملة (حسب اعتقاد الايرانيين). فالايرانيون يعتقدون أن عملتهم تستحق صرفا أفضل فيما لو ازيلت العقبات السياسية المفروضة على إيران.
فالصادرات الإيرانية بإمكانها رفع مستوى الصرف إلى قيمة جيدة ربما تصل إلى 100 تومان مقابل الدولار. ومن أجل أن تصل القيمة لهذا المستوى ومن أجل أن يكون هناك معدل واحد للصرف مطروح في سوق واحدة (وليست سوقين كما هو الحال) فإن إيران بحاجة للانفتاح السياسي الداخلي والخارجي لكي تنتعش الصناعات والصادرات. غير أن الوصول إلى هذا المستوى الجيد يحتاج لثورة إدارة في إيران.
فالفلسفة الإدارية في إيران لازالت غير محسومة بالنسبة للتخصيص ومستوى تدخل الدولة ونوعية الصناعات التي تخضع للدولة ونوعية الصناعات التي تخضع للدولة أو القطاع ومقدار الحرية المتاح للإداريين لتنفيذ خططهم. فالدولة الإسلامية تضع أمام عينها التكلفة الاجتماعية قبل كل شي، وهذا أمر متوقع. ولكن تطوير الوضع الاقتصادي يحتاج لعملية موجعة كما حدث في البلدان التي طورت وضعها الاقتصادية (مثل بولندا). كما أن تطوير الاقتصاد يحتاج للمال الأجنبي والدعم الخارجي، ولا توجد دولة تستطيع الحصول على جميع مصادر التحويل من داخل حدودها. وقد شرعت إيران مؤخرا في إصدار قانون يخول للشركات الأجنبية الاستثمارية في قطاع البترول والغاز من خلال نظام جديد للمعاملات أطلق عليه (Buy-Back Contracts)، وتعني الاتفاق بين الشركة التي تستثمر أموالها وتغذيتها في إيران مع الحكومة الإيرانية على أن تقوم الشركة ببيع إمكانياتها للحكومة بعد فترة محدودة. وهذا النوع من الترتيب الجديد تتم الدعاية له بصورة مستمرة. وتعقد إيران مؤتمرات متخصصة في إنحاء العالم لشرح هذا الأسلوب الذي يتحاشى المحذورات التي تخاف منها إيران. ذلك لأن تاريخ إيران حافل بالانتفاضات ضد الشركات العالمية التي تحتكر الاقتصاد الأساسي وتتحكم في الدولة بسبب ذلك الاحتكار، مثل التبغ في نهاية القرن التاسع عشر والبترول في القرن العشرين.
البنية التحتية والبيروقراطية
لكي تتمكن إيران من تخطى الصعاب والصعود بالمجتمع والاقتصاد الإيراني إلى المستوى المطلوب، فإن على الحكومة أن تسارع في تحسين الأداء البيروقراطي وفي تطوير البنية التحتية. البيروقراطية أمر مطلوب لحفظ هيكلية الدول، ولكنها إذا ازدادت في التعقيد وفي عدد الوراق المطلوب تخليصها وفي عدد التوقيعات والأختام لتمرير المهمات والمعاملات، فإن هذا الازدياد يعطل الحياة ويبعث على الإحباط.
وإيران، كغيرها من الدول النامية، بحاجة لأن تتخلص من البيروقراطية الزائدة عن حدها. فتسهيل المهام وإعادة تنظيم طريقة تخليص المعاملات، سواء بالنسبة للناس داخل إيران أو بالنسبة لمن يجب أن يتعامل مع إيران، أمر ضروري. ولا يمكن أن يتحقق التطور الاقتصادي دون تحسين الأداء البيروقراطي.
من جانب أحر، فإن إيران بحاجة إلى البنية التحتية المتطورة، إلى خطوط الاتصالات، إلى الانترنت، إلى المطارات الدولية الواسعة (الإيرانيون بانتظار أن يفتحوا مطار الإمام الخميني الدولي الذي سيستبدل مطار مهرآباد الذي لا يتحمل عدد المسافرين حالياً) وإيران بحاجة لتطوير وسائل النقل والشحن البرية والجوية والبحرية، بحجم يوازي الطموح المطروح في الساحة الإيرانية. هذه الأمور كلها بحاجة لسياسة واضحة وحاسمة وبحاجة ماسة لتطهير البيروقراطية من احتمالات الفساد أو الرشوة.
استقطاب الخبرات والمهارات
الدول التي استطاعت النهوض باقتصادها فتحت أبوابها لاستقبال القدرات المالية والمهارات التي يجلبها معهم الوافدون. فالولايات المتحدة مثلا تستقطب جميع الفنيين والمهرة وأصحاب العلوم وأصحاب المال إليها. وإيران مؤهلة أن تستفيد من الخبرات والمهارات الإسلامية المتوفرة في إنحاء العالم. فهناك الكثير من أصحاب العلم والمال والخبرة ممن يستطيعون تقديم الكثير لإيران فيما لو فتح المجال أمامهم. وفتح المجال أمام هذه الخبرات يعتبر من أهم عوامل التطوير في أي بلد ينمو ويسعى للوصول لأهداف كبيرة كما هو مطروح في إيران. وإيران بحاجة لإعادة النظر في كيفية استقطاب الطاقات الإيرانية والطاقات غير الإيرانية المهاجرة. وهذا كله يحتاج لثقافة مختلفة ونظرة منفتحة على مثل هذه الأمور.
تقديم الأنموذج
الحديث المطروح هو الإيمان بقدرة إيران أن تطرح الأنموذج الأمثل للدولة الإسلامية المستقلة سياسيا والمتطورة اقتصاديا والمنفتحة اجتماعيا والمترابطة مع العالم الإسلامي والخارجي من خلال الريادة في جميع هذه المجالات. لقد قدمت إيران الكثير من التضحيات من أجل استقلالها السياسي والآمال تتوجه إليها بأن توفر الأنموذج للآخرين خلال السنوات القادمة بالاستفادة من العشرين سنة الماضية، وبالاعتماد على العاملين المهمين اللذين حققا لإيران ثورتها: العامل الديني والعامل الشعبي.
العدد 1 - الجمعة 06 سبتمبر 2002م الموافق 28 جمادى الآخرة 1423هـ