طالما تغني مسئولياتنا بعبارات مشابهة لما قاله أحدهم قبل فترة "أن ثروتنا الحقيقة تكمن في شعبنا" ولعل الشخص القائل قرأ هذه المقولة في بعض الكتب أو سمع تصريحا مماثلا فلم يسمح لنفسه بتفويت الفرصة ليقولها. والواقع أن مثل هذه الكلمة تحمل معاني سامية وجليلة غير ان من قالها لا يعلم ما يترتب على مثل هذه الجملة، ولو علم تبعاتها فانه لم يكن سيتجرأ على ذكرها مرة أخرى. تحصى الدول مقدار تفوقها بحسب أهمية المواد الخام الإستراتيجية الواقعة في باطن الأرض، بحسب الموقع الجغرافي، الحجم السكاني، التطور الصناعي في المجالات الاقتصادية والعسكرية الخ. وهناك من اعتقد أن بإمكانه الاستغناء عن المخلوقات المشابهة له والتي كتب الله عليها أن تشاركه في بقعة من الأرض. هذا الاستغناء نابع – أساساً – من حب الإنسان للاستفراد بالنعمة على حساب غيره.

هناك بطبيعة الحال التقسيم المقبول القائم على الرزق الحلال وتعب الإنسان على نفسه. وهذا ليس هو ما نتعرض له هنا.

لقد حسب بعضهم أن البيانات الضخمة والمطارات العملاقة والتماثيل الميدانية هنا وهناك، والشوارع وغيرها هي رمز لعزته، فغدا يكرس كل شيء في ذلك الاتجاه دون ملاحظة أن العز الحقيقي يكمن في مكان آخر – لقد شيد الاتحاد السوفيتي أكثر من 30 الف رأس نووي وترسانة عسكرية تستطيع أن تفني العالم لو أرادت ذلك، ولكن كل ذلك التشييد لم يصمد وأنهار في فترة قصير وخاطفة.

هناك من البلدان الأخرى التي لا تحتوي على خيرات كثيرة في باطن تربتها ولكنها صعدت إلى المستويات العالمية في الميزان الاستراتيجي، مثل اليابان. وهذا لا يقتصر على الدول الكبرى، فهناك دول صغيرة مثل سنغافورة حققت الكثير في مجال التطور والصعود ببلادها وشعبها إلى الصفوف المتقدمة.

في تلك الدول الكبيرة منها والصغيرة، ودون أن يدعي رؤساؤها بأن شعبهم هو أساس الثروة، مارسوا ذلك الشعار ممارسة فعلية. فالانسان ولكي يخلق القيمة المرجوة من نشاطه أثناء حياته يحتاج لأجواء ومعاملة تختلف عن الأجواء والمعاملة التي تستخدم مع الثروات الطبيعية. هذا إذا كنا فعلا جادين في اختيار الإنسان ثروة حقيقة أهم من الثروات الأخرى، كالبترول والمعادن وغيرها. الإنسان، ولكي يستطيع لت يستخدم قدراته العقلية والبدنية بصورة حسنة، يحتاج للشعور بالاحترام يعتبر ركيزة أساسية لضمان ما يمكن أن يقوم به ذلك الإنسان.

ولذلك فإن إحدى مميزات الدول في الماضي والحاضر التي حصلت على التقدم والرقي، احترامها لشعبها.

واحترام الشعوب لا يأتي عن طريق شراء بعض فئاتها بالمال ورمي فئات أخرى في المعتقلات – فمثلا هذا الأمر يحقق أهدافا مؤقتة ولكنه بالتأكيد لا يحقق تقدما أو احتراما لذلك لشعب أو لحكومة ذلك الشعب. والخوف من الحكومة، ليس احتراما للحكومة، وهذا هو الفرق بين الشخص الذي ينطق بمثل هذه الجملة وهو يعلم أن أبناء شعبه لا يحترمونه وهو لا يحترمهم، وإنما هناك علاقة قائمة على الخوف والتخويف.

والخوف والتخويف المستمران والملازمان لوضع معين لا يمكنهما الصعود بالإنسان لكي يصبح ثروة حقيقة.

عندما يتم احترام فئات الشعب تأتي تبعات ذلك الاحترام. فالإنسان المحترم هو أيضا الذي يستطيع أن يمارس دورا هاما في حياته, والدور الهام لا يأتي من فراغ، وإنما من خلال السماح له بالمشاركة في شئون حياته. وهنا ندخل في الساحة المحرمة في بلداننا التي لازالت تتحدث عن أهلية مجتمعاتنا أن تمارس دورها بصورة ريادية. فالأهلية لا تأتي إلا من خلال الممارسة والتدريب. فالمسئول الذي نطق بالجملة لم تلده أمه مسئولا، وإنما توفرت له الفرص واستغلها لتحقيق المنصب المسئول. وإذا كان يريد من الآخرين أن يمارسوا دورهم فعليه أن يسمح لهم بحرية الإبداع والتأهيل وتقديم ما يستطيعون القيام به.

أن الإنسان المحترم هو الذي يسعى لرزقه من خلال الجد والاجتهاد ومنفعة نفسه ومن حوله من خلال ممارسة دوره كإنسان وليس كآلة. فالإنسان هو سيد لما حوله وما فوقه وما تحته من ثروات طبيعية خلقها الله لكي يستفيد الإنسان منها وهو يمارس دوره الاعماري على الأرض.

وقد يقودنا هذا الحديث لما يقوله البعض حول أسبقية التطور الاقتصادي على التطور السياسي أو العكس.

والحقيقة أن التطوران يجر أحدهما الآخر. فالدول التي تحررت سياسيا تكورا اقتصاديا، وتلك الدول التي تطورت اقتصاديا سرعان ما اكتشفت أن شعبها الذي امتلك القدرات التطورية يطالب ويحقق احترامه من خلال حرية سياسية.

وفي الحالة التي سبق التطور الاقتصادي الجوانب الأخرى، شهدت البلدان الناجحة تطور الاقتصادي الجوانب الأخرى، شهدت البلدان الناجحة تطويرا نوعيا لإدارات بلدانها وتطهيرها من الفساد والرشوة والمحسوبية والمنسوبية. فلا يوجد إنسان على استعداد أن يفتح نفسيته ويطلق العنان لقدراتها بصورة خلاقة إلا إذا اقتنع بأن هناك مردودا لما يقوم به. وإذا رأى الإنسان أن رئيسه شخص فاسد يفرق بين مرؤوسيه لا على أساس الكفاءة وإنما على أساس التمييز أو الرشوة أو ما شابه، فإن ذلك الإنسان لن يعطي من نفسه الكثير ولن يشعر بضرورة الالتزام بالعمل المتعب لان المكافأة لن تكون على حساب التعب والكفاءة وإنما على حسابات أخرى.

وددت لو عرف من يدعي انه يؤمن بمقولة "المواطن هو الثروة الحقيقية" ماذا تعني هذه الجملة، وودت لو زار السجون في بلاده وحرر الآلاف من مواطنيه الذين يشكلون الثروة الحقيقية والذين غيبوا لأنهم طالبوه بمعاملتهم كبشر لهم حقوق!