تقول إحدى الروايات الخرافية أن رجلاً ثريا وقع في حب فتاة كانت تستجدي في الطريق العام. لم تمض أيام حتى أن تقدم الثري للزواج من تلك الفتاة. وما هي إلا فترة وجيزة وإذا بتلك الفتاة تتحول من الفقر والاستجداء إلى الثراء والنعمة. مع مرور الأيام، لاحظ الزوج الثري انتشار الذباب وبعض الروائح التي تنبعث من الغرفة الرئيسية. استغرب لوقوع مثل هذا الأمر في قصره الفاخر فقرر مراقبة الوضع لاكتشاف السبب. وجد هذا الرجل أن زوجته تستلم الأكل الذي يقدمه لها الخدم وتوزعه على الرفوف المتواجدة في الغرفة. ثم تقوم بعد ذلك بالمرور على الرفوف لترديد نفس الجملة التي كانت ترددها أيام الاستجداء "يا الله من مال الله"، وبعد ذلك تقوم بأكل الطعام بأسلوب رث يؤدي لانتشاره وهذه الأوساخ المنتشرة تقوم بدورها غير الحميد.
الحديث عن قدرة الإنسان على الانتقال من وضعية معينة إلى أخرى موضوع معقد ويصعب فهم الكثير من معطياته. إذ أن هناك من الناس الذين يحصلون على المال الكثير، إلا أن نمط حياتهم يبقى متخلفا ولا ينعم هؤلاء بالإمكانيات المتوفرة لهن بذوق رفيع. وقد ترى بعض هؤلاء وتحسبهم من المنهكين اقتصاديا لان طريقة حياتهم تبقى "رثة" رغم الصرف الهائل على مختلف الأمور في حياتهم. بعكس ذلك، فقد ترى البعض وتحسبه من المتمكنين اقتصاديا لان أسلوب حياتهم وذوقهم يصل إلى مستوى ارفع من الظروف، كما تذكر الآية الكريمة "يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف" (البقرة، 243).
يقسم (برتنارد رسل) الإنسان إلى نوعين، أحدهم "خلاق"، والآخر "طماع". الخلاق يعطي والطماع يأخذ. الخلاق ينمي الخير والخيرات ويوفرها لنفسه ولمن حوله. الطماع على العكس لا يشبع ولا يتوقف من الشكوى من ضائقته وقلة إمكانياته. الخلاق هو أساس التحضر والطماع هو أساس التخلف. لان الطماع يلتهم ويبتلع ويصل الأمر به لحسد الآخرين وبالتالي تنمو فيه الحاجة للانتقال ويسهل لديه ارتكاب الجرائم لإشباع رغباته وتهدئة روعه وجنوحه للانتقام. هذا النوع من البشر حتى لو انعم الله عليه بكل ما يحلم به، لا تهدأ نفسه ولا يصدق انه حصل على ما يستحقه في هذه الحياة، وتراه يرجع إلى سلوكياته وأساليبه ويطورها بصورة سلبية. على العكس من ذلك فإن الإنسان "الخلاق" هو ذلك الشخص الذي يكدح من أحل الوصول لما يريد عن طريق الجد والاجتهاد والابتعاد عن الضرر والأضرار بالآخرين. والإنسان الخلاق هو الذي يستطيع أن يوفر لنفسه ما يمكنها من الانتصار على الظروف – مهما كانت قاسية – وهو أيضاً الذي يساعد الآخرين للانتصار على المصاعب وتخطي الصعاب.
قيل أن أحد الدراويش سمع عن أحد العلماء الأتقياء وعن غزارة علمه، فانطلق قاصدا منزل ذلك العالم. وعندما وصل إليه وجده في منزل عامر بالخير والثروة مما أدى لاستياء ذلك الدرويش الذي يصلي الليل والنهار ويتقرب إلى الله باستمرار، ولهذا قرر الخروج والعودة إلى مقر تعبده. العالم الثري أصر عليه أن يوصله إلى خارج المدنية. وهكذا كان، إذ ركب الدرويش والعالم على الخيل ووصلا خارج المدنية.
وهناك تذكر الدرويش انه نسي عصاه في منزل ذلك العالم، فطلب العودة لأخذ تلك العصا. ولم يستطع العالم "الثري" ثنيه عن العودة الشاقة ولم يستطع إقناعه بأخذ عصا أخرى متوفرة بالقرب منهم، إلا أن الدرويش قال بأن ارتباطه بعصاه أمر عميق لا يستطيع التخلي عنه. وهنا التفت إليه العالم قائلاً: لقد تركت منزلي وثروتي وركبت معك الطريق الوعرة استجابة لما هو مطلوب مني لخدمة الضيف، ولم أفكر في الثروة والجاه. بينما لا تستطيع أنت مفارقة عصا بالية، وهذا هو الفرق بيني وبينك. فالزهد الذي تدعيه زهد ظاهري، أما الزهد الذي أقول به فهو زهد حقيقي "فليس الزهد أن لا تملك شيئاً، ولكن الزهد أن لا يملك شيء".
الانتقال بالنفس للذوق والأرفع لا يعني أن يملك الإنسان المزيد من المال أو الجاه، وإنما يعني أن الإنسان يتذوق النعمة التي وفرها الله له عن طريق الحلال والكدح والتعب "يا أيها الإنسان انك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه".
الانتقال بالنفس من الذل إلى العز لا يعني أن يتكبر الإنسان أو يحكم الآخرين أو أن يمتلك المال أو الجاه. الانتقال النفسي يعني الاطمئنان القلبي تجاه الذات وقدراتها على تخطي الصعاب والانتقال من الوضع الأدنى غير اللائق بكرامة الإنسان إلى الوضع الذي يسمح للطاقات الخلاقة بالظهور. هذا الاطمئنان القلبي يحتاج للأخلاقية المعنوية وذكر الخالق "ألا بذكر الله تطمئن القلوب". وهذا الاطمئنان لا يعني التواكل أو الاتكال، كما أنه لا يعني الدروشة والابتعاد عن نعم الله. هذا الاطمئنان يعني الثقة بالنفس وعدم استسلام المرء أمام الصعاب. والأهم من ذلك عدم السماح للنفس أن تعيش الذل بينما تتوفر سبل العيش الكريم.
والعيش الذليل ليس بالضرورة أن يكون مفروضا على المرء من قبل حاكم ظالم. العيش الذليل قد يفرضه الإنسان على نفسه تماما كما فعلت تلك الفتاة الفقيرة التي لم تستطع التخلص من عاداتها غير الحسنة حتى بعد أن أنعم الله عليها.
العدد 1 - الجمعة 06 سبتمبر 2002م الموافق 28 جمادى الآخرة 1423هـ