التعذيب، أمر استثنائي، لأنه يوضح بصورة لا تقبل الشك ما هو الإنسان وما هي حقوقه. كل إجراء يؤدي لإيذاء نفسي أو جسدي يهدف منه سحب معلومات أو التمثيل بإنسان معين، هو التعذيب. التعذيب يحتاج لمعذب يمثل سيادة الدولة... هذه "السيادة" ترى نفسها مرفوضة من بعض أو أكثرية الأشخاص الذين يعيشون في كنفها. هذه "السيادة" تطالب الدول الأخرى بعدم التدخل في شئونها. هذه السيادة تعتمد على رضا الأشخاص لديهم أجسام بإحجام وأشكال مختلفة. هذه الأجسام هي "سيادة شخصية" لا يحق لأحد أن يعتدي عليها كائنا من كان.
الشخص – المعذب الذي يمثل سيادة الدولة - يعتدي على السيادة الشخصية لإنسان يعيش في كنف تلك الدولة.
الدولة تستمد سيادتها الكلية من الأشخاص الذين يتخلون عن جزء من سيادتهم الشخصية لصالح السيادة العامة (سيادة الدولة).
الدولة التي تفقد شرعيتها هي التي تشعر أن سيادتها تهتز لأن الأشخاص امتنعوا عن التنازل عن جزء من سيادتهم لصالحهم. مثل الدولة الرسمي الذي يمارس التعذيب يهاجم الشخص (المعتقل) ويعتدي على سيادته بحثا عن الجزء المفقود من سيادة الدولة. الجزء المفقود هو عدم الرضا وعدم الاستعداد للتنازل عن ذلك الجزء من السيادة الشخصية لصالح السيادة العامة للدولة. وهذا أمر لا يمكن الحصول عليه من خلال انتهاك السيادة الشخصية للإنسان.
إيذاء الإنسان يعني أن الدولة تحاول البحث عن شرعية لها من خلال إجبار ذلك الإنسان للتنازل عن سيادته على شخصه بالقوة. الدولة التي تحرص على صيانة سيادتها من الاعتداءات والتدخلات الخارجية، هي ذاتها لا تمنع نفسها من الاعتداء على سيادة الأشخاص على أجسادهم. عدم احترام سيادة الأشخاص على أجسادهم هي دعوة مفتوحة من تلك الدولة للآخرين لعدم احترام سيادتها على جغرافيتها. الإنسان ليس وسيلة بل غاية وهدف يلزم تطويع الأرض وما عليها لخدمته. انتهاك الإنسان من خلال تعذيبه هي عملية غير إنسانية لأنها تعتبر جغرافية الدولة، المفترضة من قبلها، أهم من شخصية الإنسان. بمعنى آخر: الإنسان ما هو الا "تابع" إلى أرض أو دولة وليس له قيمة تستحق عدم الاعتداء عليها. قيمة الإنسان في دولة التعذيب هي صفر على الشمال.
عدم سيادة المواطن – الإنسان على جسده هو التهديد الحقيقي لأمن الدولة. بمعنى آخر فإن الدولة التي تعذب الإنسان – المواطن، هي التي تهدد أمنها، لان أمنها قائم انتهاك سيادة الإنسان على نفسه.
الإنسان لم يولد من أجل دولة، أو من أجل جغرافية معينة. الإنسان يولد حرا ويجب أن يبقى حرا، الإنسان يولد سيدا على نفسه، ولا يحق لمخلوق أن يسلب هذه السيادة الذاتية تحت أي حجة كانت، وتحت أي عذر كان.
النظام العالمي الذي نشأ بعد الحرب العالمية الثانية جاء لنا بميثاق الأمم المتحدة. ميثاق الأمم المتحدة يعترف بسيادة الدولة على أراضيها وعدم أحقية أي دولة التدخل في شئون تلك الدولة. ميثاق الأمم المتحدة أعطى الأولوية لسيادة الدولة فقط، ولم ينظر إلى أساس تلك السيادة، وهو الإنسان ذاته. ثم صدر في العام 1948 الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي حاول تصحيح الخطأ الذي وقع فيه ميثاق الأمم المتحدة. ومنذ صدوره بقي الإعلان العالمي دون أسنان ودون أظافر في مقابل ميثاق الأمم المتحدة.
الإعلان العالمي يركز على حرمة الإنسان وسيادته على نفسه. في مقابل ميثاق الأمم المتحدة الذي يركز على حرمة الدولة وسيادتها على نفسها.
ميثاق الأمم المتحدة له أسنان، وتسيطر الولايات المتحدة مع الدول الدائمة العضوية على أدواته وأجهزته وتسير السياسة الدولة بما يحفظ سيادة الدول الأقوى، دائمة العضوية. بينما تحاول الدول الأضعف السلامة على نفسها من خلال "الشرعية الدولية"، أي من خلال ميثاق الأمم المتحدة.
غير أن السيادة الإنسانية – الذاتية لازالت فاقدة للأدوات والأجهزة والمؤسسات التي ترعاها. وتحاول المنظمات غير الحكومية رعاية "سيادة الإنسان على نفسه" ولكنها لازالت لا تملك القوة التي توازي قوة المنظمات الحكومية الحكومية (الدولة القومية الأعضاء في الأمم المتحدة).
التعذيب يعتبرا أسوأ اعتداء على السيادة. وهذا الاعتداء يمارس يوميا وكل لحظة من قبل الدولة الفائدة لمصادر السيادة (الإنسان – المواطن). التعذيب له أنواع يستهدف بعضه سحب الاعتراف من خلال الاعتداء على سيادة الإنسان. النوع الآخر يعتمد على إهانة الإنسان وإفقاده إنسانيته. وأسوأ أنواع هذا التعذيب هو الاعتداء الجنسي ضد الرجال والنساء. الاعتداء الجنسي يستهدف أخراج الإنسان من إنسانيته لأنه اعتداء ليس على الجسد فقط وإنما اعتداء على روح الإنسان ومعنى الإنسان وشرفة وكرامته. التعذيب من خلال الاعتداء الجنسي هو أسوأ أنواع التعذيب المتواجد في أسوأ البلدان الفاقدة للشرعية وهذه الدول الفاقدة لشرعيتها ترى نفسها فاقدة لمحتواها الإنساني وإنها وصلت إلى الصفر. أنها تثأر من هذا الوضع الذي وصلت إليه فتسارع للانتقام من المواطن الذي رفض أن بتنازل عن جزء من سيادته للدولة التي لا تمثله من قريب أو بعيد. إنها دولة غير شريفة ولا تنتمي لبني الإنسان، ولذلك فهي تستهدف الإنسان – الشخص وتحاول إفراغه من إنسانيته بالاعتداء عليه جنسياً.
الاعتداء على سيادة الإنسان وعدم إمكانية الوقوف ضد هذا الاعتداء بعني أن النظام الدولي فاشل في الحفاظ على الأمن الإنسان. وهذا النظام مطالب اليوم أن يصلح نفسه قبل فوات الأوان. سيادة الإنسان هي الأساس وليس سيادة الدولة، وإذا كانت الدولة تحاول الحفاظ على سيادتها من خلال انتهاك سيادة الشخص – المواطن، فنانها مخطئة كل الخطأ، لأن اعتداءها على المواطن هو اعتداء على سيادتها نفسها، وهي دعوة مفتوحة للمواطنين ومن بني الإنسان في أي مكان للتعاضد والتناصر لإزالة هذا النظام.
العدد 1 - الجمعة 06 سبتمبر 2002م الموافق 28 جمادى الآخرة 1423هـ