"سيشكل موضوع احترام حقوق الإنسان الحجر الأساس في سياستنا الخارجية"... هذه واحدة من الجمل التي سمعناها تتكرر في السنوات القليلة الماضية. هذه الجمل قد تصدر من مسئول أميركي أو مسئول بريطاني، وقد تكتب وتنشر وتطرح في المؤتمرات الدولية. الجانب الأخلاقي في الدبلوماسية موضوع قريب من النفوس خصوصا في تلك البلدان التي تتوق لشيء من احترام الإنسان.
هذه الجملة وأمثالها كانت شعارا كبيرا مطروحا في نهاية الثمانينات وبداية التسعينات، إلى الدرجة التي خرج فيها السيد جورج بوش (الأب) ليصرح أن نظاما عالميا جديدا قد بدأ يفرض نفسه. كانت الثورات الديمقراطية تجتاح أوروبا الشرقية وكان الاتحاد السوفياتي يتهاوى أمام مطالب الجمهور. وكانت الولايات المتحدة تصفق لهذا المد الديمقراطي. وفي هذه الأجواء قبل ثمانية أعوام زحف الجيش العراقي على الكويت واحتلها في بضع ساعات. الرئيس الأميركي لم يتردد كثيرا، بل خرج في بادئ المر ليعلن للرأي العام الأميركي بأن الديكتاتورية العراقية لن يسمح لها بالسيطرة على الكويت وأن عهد الانفتاح والإرادة الدولية باتجاه حفظ السلام والتوازن واحترام الأطراف لبعضها الآخر وانتشار مبادئ حقوق الإنسان كلها تدعو القيادة الأميركية لرفع الراية العالمية لمواجهة البطش العراقي في الكويت.
الاحتلال العراقي للكويت كان نقطة تحول للشرق الوسط وللأمة العربية والأمة الإسلامية. الفلسطيني الذي كان يتمنى ان يتعاطف العالم مع قضيته ولو بمقدار ذرة واحدة بالمقارنة لما حدث في الكويت، كان في موقع لا يحسد عليه. الكويتيون الذين صرفوا أموال خزائنهم لمدة ثماني سنوات لدعم الجيش العراقي ضد إيران يشاهدون بأم أعينهم كيف تحرق الدبابات العراقية (التي تم شراؤها بأموال الكويت) وكيف تدمر هذه الدبابات الكويت.
الشعب الكويتي يبدأ محنة عسيرة تحت الاحتلال العراقي، ومن كان يعرف من هو صدام كان يتمنى أن توجد قوة لإيقافه أو إخراجه. والكثير كان ينظر وعينه مملوءة بالحسرة على قلة الحيلة وانعدام الفكرة والهدف والأسلوب، وبين عشية وضحاها وإذا بالعالم العربي أصبح في خبر كان لا يحل ولا يربط ولا يستطيع ان يمارس دوراً سياديا. والجملة التي تكررت دائما هي "المجمع الدولي" و"الإرادة الدولية" و"النظام العالمي الجديد" و"انتشار الديمقراطية" والوقوف بوجه الوحشية والاستبداد.
تحررت الكويت على هذه الأنغام وتنفست النخب المثقفة الصعداء قليلا لأنها اعتقدت أن بإمكانها أن تمارس دورها في التعبير عن الرأي. اجتاحت الدول الخليجية موجة عارمة من العرائض والكتابات المطالبة بضرورة الانفتاح السياسي. كثير من الناس اعتقدوا بأن التجربة الكويتية هي الدرس الأول والأخير للحكام والمحكومين بضرورة الانفتاح السياسي. الكثيرون اعتقدوا أن أميركا تريد النفط وأنها إذا حصلت على النفط فلن تمانع وجود ديمقراطية. الكثير اعتقدوا بأن قبضة الديكتاتورية (من خلال أجهزة الأمن والجيش وغيرها) ستكون اخف من السابق. الكثير اعتقدوا بان الهزة التي تعرض لها الشرق الأوسط ستكون بمثابة "الدومينو" الذي يتسبب في تساقط وتهاوي الديكتاتورية الواحدة بعد الأخرى.
ثمان سنوات حلت لتثبت عكس تلك التوقعات. فالسيد جورج بوش خرج ليصحح الاعتقاد الخاطئ ويقول "أننا لم نحرر الكويت من أجل الديمقراطية". وتم تكرار فحوى هذا الكلام على ألسنة المسئولين بمختلف ألوانهم الجمهورية والديمقراطية، المحافظة والليبرالية. لم تهتز الأنظمة ولم تحرم ساكنا باتجاه الانفتاح السياسي. على العكس فالشيء الوحيد الذي يجمع هذه الأنظمة هو التوقيع على اتفاقيات لمكافحة الإرهاب (مكافحة المعارضة وحرية الكلمة) وتسليم الإرهابيين (= تسليم المعارضين).
لا يمكن أن تجتمع حتى دولتين من أجل ربط اقتصادياتهما. لا يمكن هذا ولا يسمح له إلا بشرط أن يكون البلد الآخر هو "إسرائيل". لا تسمح أن مسئولاً في إحدى الدول قرر أن يباشر مشروعا ديمقراطيا إلا وتسمع أيضا تصعيدا في سوء العلاقات سواء داخل الدولة أو بين تلك الدولة وجارتها. الكويت، البلد الذي وضع الكثير أمله في أن يمثل قدوة لغيره أصبح اليوم مهددا بغلق برلمانه، وأصبح برلمانه مشلولا. يقول أحد الكويتيين: ربما أن الخطة هي إثبات أن وجود البرلمان يضر بالخدمات للمواطنين وتكون هناك ردة من المواطنين ضد البرلمان وربما دعوات "شعبوية" لعودة الديكتاتورية. القضاء الكويتي يحكم على مستضعفين من دولة عربية لإنهم قرأوا بيانات معارضة للديكتاتورية في ذلك البلد العربي. أننا نتراجع إلى الوراء يبدو أن ما حدث في الثاني من آب (أغسطس) 1990 لم يمكن كافيا لإبعادنا عن المهالك?
العدد 1 - الجمعة 06 سبتمبر 2002م الموافق 28 جمادى الآخرة 1423هـ