الشيوعيون كانوا يدعون لمجتمع بدون دولة، إلا أن البلدان التي قامت على المبادئ الماركسية تحولت إلى أكبر البيروقراطية الحكومية في العالم، إلى الدرجة التي عجزت كثير من البلدان من تحمل تبعات تلك المؤسسة الضخمة وسقطت وتحولت إلى مجتمعات تحكمها المافيا بدلا من البيروقراطية الرسمية.
الليبراليون دعوا لتقليص حجم الدولة قبل أن يتصاعد حجمها وتسقطهم كما أسقطت الشيوعيين. حكامنا لا زالوا يبحثون عن المزيد من الوسائل لتضخيم حجم الدولة مراهنين على قدرة الدولة لحمايتهم (ليس من أعدائهم) وإدامة عزمهم.
الدولة – المؤسسة أصبحت تنمو وتكبر كما تكبر الشجرة، ودورها يتصاعد بصورة حثيثة على المستوى الدولي، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. الدولة – المؤسسة تشبعت، ويوما بعد يوم تثقل كاهل نفسها وستسقط عاجلا أم عاجلا، إذا لم ترشد نموها. فالشخص الذي يأكل ويأكل، فإن حجم بطنه يصبح ثقيلا على رجليه، ويصاب بأمراض وجع الظهر، ثم تخلخل إحدى فقرات ظهره، ثم يسقط طريح الفراش.
قبل فترة نشرت إحدى الصحف البريطانية الصغيرة حبرا مفاده أن شخصا صغيرا في العمر، ولكنه ضخم الجثة قد مات وعجز اثنان من رجال الإسعاف من نقله من شقته إلى المستشفى، مما اضطرهم لطلب نجدة رجال إطفاء الحريق. ولم يستطيع إلا أربعة أشخاص بعضلات قوية من حمله ونقله إلى المستشفى. بعد ذلك نقل المتوفى إلى شركة تحرق الأجساد (عدد لا بأس به من الغربيين يفضلون تحويل الجسد إلى رماد ثم دفنه). إلا أن الشركة عجزت عن إدخاله في الفرن المعد لحرق الموتى، مما حدى بهم للاتصال برجال الحريق مرة أخرى ونقله إلى جهة غير معلومة، بعيدا عن كاميرات الصحفيين.
ربما أن مصير دولنا المتضخمة لن يكون بأفضل من مصير الشاب الضخم جدا الذي كان متورطا هو قبل مماته، وتورط به الآخرون بعد وفاته. دولنا المتضخمة متورطة هي بنفسها وسنتورط نحن بعد رحيلها. هذا المصير ليس حتميا فيما لو أدرك بعض العقلاء المسيطرين على دولنا وسارعوا لإصلاح الأوضاع قبل فوات الأوان عليهم، وقبل أن نتورط بجثث دولهم المتضخمة.
هناك نظرتان أساسيتان لدور الحكومة في المجتمع. نظرة ترى أن الدولة (الحكومة، البيروقراطية) مؤسسة مدنية هدفها الأساس مساعدة المواطنين للعيش كما يحبون، دون أن تتدخل هذه المؤسسة المدنية (الخدماتية) في تحديد الأفكار والتوجهات للمواطنين. نظرة أخرى ترى أن الدولة مؤسسة تنموية، هدفها تنمية مواطنيها اقتصاديا واجتماعيا وثقافيا، وتسعى لتوسيع إمكانات مواطنيها من خلال توسيع إمكانيات الدولة ذاتها.
النظرة الأولى ترى أن الفرد هو الأساس، الثانية ترى أن المجتمع هو الأساس. الأولى تدعو للحرية الفردية، و"الرأسمالية" والليبرالية، بينما الثانية تدعو لتنمية المجتمع و"الاشتراكية".
لا توجد دولة تؤمن بنظرة دون الأخرى، وإنما الموجود هو خليط بين النظرتين، مع تغليب احدهما على الأخرى، ومن أجل هذا فإن الحكومات تفرض الضرائب التي تحدد حرية الفرد، وتنقل تلك الضرائب لمصلحة المجتمع. المزيد من الضرائب يعني أن الحكومة ترى تنمية المجتمع في خطر وهي بحاجة لان تضغط على حرية الفرد لتأخذ منه شيئا من حقه ونقله إلى المجتمع.
هناك نمط آخر من الدولة يعترف كثيرا بالمجتمع، لان الحكومة في تلك الدولة تعتقد أنها في غني عن الاثنين. تلك هي الدولة "الريعية" الدولة التي تعيش على "ريع" يغني المساكين بالسلطة دون الحاجة لان يرجعوا لمواطنيهم (أن كانوا يسمونهم مواطنين) لأخذ ضرائب منهم.
هذا الريع قد يكون ذهبا أو فضة، أو أحجار كريمة، أو بترولا متواجدا تحت الأرض.
الحكومة في هذه الحالة لديها المال الوفير لإسكات المجتمع من خلال توزيع بعض من تلك الثروة على جزء من المجتمع، ومن ثم احتكار ما تبقى واستخدامه لصالح "أصحاب الحق" الماسكين بالسلطة. الدولة الريعية تعيش عادة خمسين عاما، تجرد الحساب. فإن كانت قد استخدمت تلك الثروات في تأسيس بنية تحتية قوية فإن أعوام المستقبلية تكون مزدهرة، وإلا فإن عليها الوبال. اسبانيا، مثلا، سيطرت على أميركا الجنوبية في القرن السادس عشر واستنفذت آلاف الأطنان من "الفضة" والذهب في تمويل حروبها الأوروبية، وانتهت بعد انتهى المخزون، وأصبحت بعد ذلك دولة ضعيفة ليس لها رأي مقابل دول أوروبية أخرى ظهرت واستلمت دور الريادة.
قد لا تكون المقارنة مع اسبانيا دقيقة، إلا التاريخ لا يذكر دولا لا تهتم بإفرادها ومجتمعاتها مثل دولنا. ودولنا يعجز الأكاديميون عن وصفها أو إعطاء موجز عقلاني يمكن من خلاله فهم الأمور فيها.
ربما أن دولنا قد وصلت إلى حالة الشاب "السمين جدا" قبل ان تموت، ولهذا فإن رجال الإسعاف المحليين والدوليين عاجزون عن تحديد الوجه التي يأخذون فيها هذا الجسد "الحي – الميت" لان عصرنا أصبح مملوءا بالكاميرات والانترنت?
العدد 1 - الجمعة 06 سبتمبر 2002م الموافق 28 جمادى الآخرة 1423هـ