يتوقع أن يتم تحويل "مصنع للخمور" إلى مبنى حديث يضم اعضاء البرلمان الاسكتلندي المزمع انتخابه في العام 1999. ولعل الاختيار هذا ليس له علاقة بصلب الموضوع، وهو عودة البرلمان الاسكتلندي بعد عدة قرون من التوقف. وكان السبب في اتحاد اسكتلندا مع انجلترا قيام أحد ملوك الاسكتلنديين "الملك جيمس" بغزو انجلترا في مطلع القرن السابع عشر. كان ذلك الملك يؤمن بحقه "الالهي" وان كلمته فوق كل شيء. وجاء بعده ابنه شارلز الأول الذي آمن بنفس الفكرة وسعى لمصادرة البرلمان الانجليزي (ويستمنستر) كما صودر البرلمان الاسكتلندي وسحب منه حرية اتخاذ القرارات والمحاسبة. ولكن الملك شالز الأول لم يفلح في نهاية الأمر وقام البرلمانيون برسائة كرومويل بملاحقته من خلال تكوين جيش تابع للبرلمان ويأتمر بأمر نواب الشعب، والقي القبض على الملك وحوكم وقطعت رقبته.
ومنذ الربع الأخير من القرن السابع عشر أصبح نواب الشعب في البرلمان الانجليزي (ويستمنستر) هم أصحاب الكلمة الأولى في انجلترا وويلز واسكتلندا. الاسكتلنديون من جانبهم احتفظوا بالكثير من خصوصياتهم. فالقانون الاسكتلندي يختلف عن القانون الانجليزي المعمول به في انجلترا وويلز، والبنوك الاسكتلندية، مثلا، لها حق أصدار عملة الجنيه الاسترليني بأشكال مختلفة عن تلك التي يصدرها البنك المركزي في لندن. والتنظيمات المدنية جميعها تختلف عن تلك الموجودة في جنوب البلاد. والاسكتلنديون يشعرون أن عددهم قليل (خمسة ملايين) في مقابل قرابة خمسين مليون انجليزي وهم لذلك لايثقون كثيرا بالأحزاب التقليدية مثل (حزب المحافظين) إلى الدرجة التي لم يحصل فيها حزب المحافظين على أي مقعد خلال الانتخابات الماضية (1997). وكثر الحديث عن الخصوصية الاسكتلندية خلال الثمانينات خلال فترة الحكم السيدة تاتشر بسبب سياسيتها التي لم تناسب الطبقة العاملة التي تمثل حجما كبيرا في اسكتلندا بينا كان الاقتصاد البريطاني يستفيد من بحر الشمال القادم من الأراضي الاسكتلندية.
رئيس الوزراء البريطاني توني بلير أعلن قبل انتخابه انه سيعيد النظر في الدور الحكومي، متبعا بذلك مسار التفكير في دول العالم المتقدمة حول ضرورة إعادة النظر في دور الحكومات.
فالحكومات كبرت كثيرا خلال العقود المنصرمة وأصبحت هذه الحكومات عبئا على نفسها وعلى المجتمع. فهي لا تستطيع القيام بكل المهام الاقتصادية والاجتماعية وغيرها بالصورة المتكاملة. والنظام المركزي الصارم يصلح للدولة التي لا تعبر أهمية لضرورة مشاركة أفراد المجتمع في شتى مجالات الحياة.
والدول التي أصرت على الصرامة في النظام المركزي، مثل دول أوروبا الشرقية. انتهت وتفككن مجتمعاتها وتحولت من الانضباط التام إلى الانفلات العام. ذلك لان الانضباط لم يكن نابعا من مشاركة شعبية حقيقية وإنما كان مفروضا من قبل أجهزة الحكم المركزي. ولكي تستطيع هذه الأجهزة فرض سيطرتها المركزية بصورة كان لابد من التضحية بكل الاعتبارات الأخرى المعنية بالتطور الاقتصادي والمشاركة الشعبية.
بريطانيا بحد ذاتها تلتزم نظام المركزية من خلال حكومة ويستمنستر ولكن من الناحية العملية فإن جميع الحكومات المحلية تتمتع بصلاحيات واسعة في الصحة والتعليم والبيئة والأمن والإسكان وغيرها. فالشرطة، مثلا، في بريطانيا تأخذ توجيهاتها من الحكومات المحلية (ما عدا شرطة العاصمة التي ترتبط بوزير الداخلية بصورة مباشرة).
ومع ذلك، فان حكومة العمال التي تتابع التطورات الفكرية والاجتماعية وجدت أن المستقبل البريطاني يستلزم المزيد من اللامركزية في إدارة الدولة، والاتجاه إلى الشكل الفيدرالي.
والحكومة البريطانية تبتعد عن ذكر "الفيدرالية" لحساسية الموضوع وارتباطه بالملف الأوروبي واختلاف النظام الفيدرالي، إلا أن الواقع سيكون مشابها جدا للنظام الفيدرالي المتبع، مثلا، في ألمانيا والولايات المتحدة.
أن ما أثارني لطرح الموضوع أعلاه قراءتي لموضوع كتب في أحدى الصحف المحكومة "مركزيا" من قبل أحدى دولنا المتضخمة في مركزيتها. يقول الكاتب "المركزي" مستهزءا بان توني بلير يشبه غورباتشوف الذي دمر الاتحاد السوفيتي. فالكاتب يعتبر تخلي الحكومة البريطانية عن بعض مركزيتها خطرا على الدولة البريطانية. وهو صادق فيما لو كانت التركيبة الحكومية وارتباطها بالمجتمع تشبه التركيبة الحكومية في بلداننا المركزية والصارمة في مركزيتها.
وصرامة المركزية في بعض بلداننا أدت لتركيز كافة الصلاحيات الإستراتيجية وغير الإستراتيجية في أيدي أجهزة القسم الخاص والشركة السياسية التي تضطر، من أجل ممارسة دورها، إلى تحويل قدرات البلاد لبناء السجون بدلا من بناء المصانع. الاسكتلنديون سيحولون مصنعا للخمور إلى مبنى لبرلمانهم وسيمارسون حقهم بصورة أوسع من قبل. أما حكامنا فسيشربون النخب على مضاعفة "مركزيتهم" حتى الثمالة?
العدد 1 - الجمعة 06 سبتمبر 2002م الموافق 28 جمادى الآخرة 1423هـ