يردد بعض المسئولين السياسيين في بلداننا العربية جملة تقول "أن عاداتنا تختلف عن عادات الآخرين، ونحن غير ملزمين بمفاهيم مثل حقوق الإنسان والديمقراطية والحياة البرلمانية والدستورية". وهذه الجملة يتم تأطيرها باسم الدين تارة وباسم العادات والتقاليد تارة أخرى. وتهدف مثل هذه الجمل للهروب من الجواب على أسئلة مطروحة على الساحة السياسية العالمية حول مدى إمكانية استجابة الأنظمة الحاكمة في بلداننا لمتطلبات العصر بالنسبة للممارسة السياسية والمشاركة الشعبية في الحياة العامة.
القائلون باختلاف العادات والتقاليد، يقولون أن لنا خصوصية ثقافية مجتمعاتنا من قبول مفاهيم تدعو لاحترام حقوق المواطنين السياسية الداعية لحرية التعبير عن الرأي والتجمع والمشاركة الحقيقية في الشئون العامة.
مسألة الخصوصية تنبع من مفهوم "نسبية" المفاهيم، بمعنى أن معنى الصح والخطأ أمر نسبي. فما هو صحيح لدى مجتمع ما قد يكون خطأ لدى مجتمعا آخر.
وهذا الفهم له جانب عفوي وغير متطور. فنظام جنوب إفريقيا القديم كان يطرح مقولات مماثلة تقول بأن نظام الفصل العنصري أمر مقبول وصحيح في مجتمع جنوب إفريقيا. وأن هذا الفصل العنصري قد يكون خطأ في بلدان أخرى وثقافات أخرى، ولكنه ليس سيئا في جنوب إفريقيا. وكان هناك سياسيون و"مثقفون" يطرحون هذا القول ويدافعون عنه دون هوادة.
ان هذا الطرح "العفوي" ليس بريئا لأنه يتستر باسم الدين أو العنصرية البيضاء أو العادات والتقاليد. لقد كانت العنصرية البيضاء في جنوب إفريقيا لا تخجل من طرح مفهوم "النسبية" بنفس مقدار عدم الخجل الذي يبديه من يتستر باسم الدين والعادات والتقاليد النسبية في طرح المفاهيم التي تتناقض بصورة جذرية مع الدين الإسلامي ولان النسبية تعني أن "الحق" متعدد والنسبية تنفي الصفة العالمية التي ينادي بها القرآن الكريم وآيات كثيرة.
النسبية في المفاهيم خطيرة، والقول بها يؤدي لممارسات خطيرة. فعندما يتحدث الإسلام عن حرمة الاعتداء على الآخرين أو حرمة السرقة أو غيرها، فإن ذلك يعني وجود تحريم غير محدد بزمان ومكان. فلا يمكن لإنسان أن يدعي الدين ثم يقول أن السرقة حلال لأنها تختلف عن الزمان والمكان الذي حرمت فيه السرقة. كما لا يمكن لشخص يدعي الدين أن يقول بأن الظلم حلال لان الظلم الذي حرمه الدين كان يرتبط بزمان ومكان يختلف عن الزمان والمكان الحاليين. هناك ثوابت، وهذه الثوابت لا تتغير مع تغير الزمان والمكان، وذلك فهي دين أو مبادئ أو سنن تخضع لها جميع المجتمعات بغض النظر عن الظروف والأزمنة والأمكنة.
نعم هناك ديناميكية متحركة لفهم المتغيرات التي تتفرع من تلم المبادئ، وعلى هذا الأساس يقوم الإنسان باستخدام عقله لممارسة دوره الاجتماعي.
إذاً، الحديث ينبغي أن يتركز حول عالمية المفهوم أو عدم عالميته، وليس عن خصوصية مجتمعنا واستخدام هذا القول لرفض الانفتاح السياسي.
وعلى هذا الأساس فإن مفهوم المشاركة الشعبية يعتمد على أساس عالمي يرتبط بكرامة الإنسان، هذه الكرامة التي قال عنها الله سبحانه وتعالى "ولقد كرمنا بني آدم". هذا التكريم الالهي يعني، في ما يعني احترام الإنسان وحقه في الحياة الحرة الكريمة. ولان الإنسان يختلف عن الحيوان بعقله ونطقه، فإن حرية التعبير تصبح قيمة أساسية عالمية غير مرتبطة بخصوصية العادات والتقاليد. وإذا كان المسئولين يقولون بان عاداتهم وتقاليدهم لا تتعارض مع كرامة الإنسان فإن عليهم بالسماح للمجتمع ان يقول بذلك بنفسه من خلال إطلاق حرية الصحافة وحرية التجمع السلمي. أما إذا رفض المسئول أن يسمح لأبناء المجتمع بالحديث بصورة حرة فإنه يحاول قطع لسان لشعب، والإنسان المقطوع اللسان ليس له قيمة لأنه لا يستطيع أن يتعامل مع أخيه الإنسان، ولا يستطيع أن يعبر عما يجول في خاطره.
قد لا يكون كل شيء في "النسبية" أمر خاطئ، ولكن "النسبية" التي يقول بها بعض ساسة بلداننا هي نفسها تلك النسبة التي كان يتحدث بها رموز النظام العنصري في جنوب إفريقيا. وهذه النسبية أيضا تشبه الحديث الذي تطرحه بعض الدوائر السياسية التي تقول بان "فلسطين ليست فلسطين". ففلسطين التي يفكر بها أهل فلسطين أمر "نسبي" وهو صحيح بالنسبة للفلسطينيين. وعدم وجود فلسطين الذي يفكر به الإسرائيليين أيضا صحيح لأنه خاضع "لنسبية" الأفكار والمنطلقات.
كفانا مفاهيم "نسبية" وكفانا قطع للسان وكفانا حرمات للحقوق وكفانا ادعاء بان عاداتنا وتقاليدنا لا تسمح بالانفتاح السياسي.
العدد 1 - الجمعة 06 سبتمبر 2002م الموافق 28 جمادى الآخرة 1423هـ
ذكرى
ما اجملو