العدد 1 - الجمعة 06 سبتمبر 2002م الموافق 28 جمادى الآخرة 1423هـ

في عصر التعددية تتعدد أساليب السرقة أيضاً

عندما قرر أعضاء البرلمان الأوروبي محاسبة المفوضية الأوروبية في منتصف كانون الثاني (يناير 1999) ربما كانوا يهدفون لتحقيق أمرين هامين: الأول، أراد أعضاء البرلمان التدريب على ممارسة صلاحياتهم الجديدة التي بدأوا وباكتسابها مع التوقيع على معاهدة ماستريخت قبل عدة سنوات وإشهار الاتحاد الأوروبي. معاهدة ماستريخت أعطت بعض الأسنان لأعضاء البرلمان الأوروبي لمحاسبة المفوضين (وهم الهيئة التنفيذية العليا التي قد تصبح مجلسا للوزراء فيما لو تحولت أوروبا لدولة متحدة واحدة) وأعطت الاتفاقية مجالا أوسع لممارسة الرقابة على أنشطة الاتحاد الأوروبي.

الأمر الآخر الذي أراده الأعضاء هو القول بأن الرشوة والتلاعب بالمال مرض خطير لابد من مواجهته لكي تتطور المجتمعات.

ومواجهة الفساد المالي والسرقة والرشوة أمر مطلوب باستمرار للحفاظ على مكتسبات أي أمة. وحتى لو كان المفوضون الأوروبيون ذوو نيات حسنة فإن عدم مقدرتهم السيطرة على عمليات التزوير التي تدور حولهم وباسمهم سبب كاف لإقالتهم.

والتحذير الذي أراده الأعضاء وصل إلى المفوضين الذين سيبدأون بمحاسبة أنفسهم أكثر من السابق للحفاظ على مواقعهم التنفيذية.

هناك وسائل كثيرة وعديدة للحصول على المال والسطو على الحق العام. وهذه الوسائل متواجدة في كل المجتمعات والمؤسسات سواء كانت أوروبية أو غير أوروبية، وسواء كانت هذه المؤسسات سياسية أو اجتماعية أو دينية. السرقة هي السطو على مال الآخرين دون رضاهم. ويدخل ضمن هذا التعريف الاحتيال والسطو والتزوير والتلاعب بالقانون, وهناك الكثير ممن يتلاعبون بصورة قانونية على القوانين المدنية بالطرق التي يطلق عليها البعض اسم "المحاسبة المبدعة" "Creative Accounting".

هؤلاء يقومون باستخدام القانون لإثبات أنهم معفون من الضرائب، وانتشر هذا الأسلوب في عهد رئاسة وزراء بريطانيا مارغريت ثاتشر كثيرا التي شجعت على الجشع من خلال سياسياتها الداعية لإطلاق الحرية في السوق وتقليل القيود مما وفر فرصة لمن يتصيدها لتجييرها لمصلحته. هؤلاء لا يخالفون القانون من الناحية الفنية ولكنهم يخالفونه من الناحية المعنوية ولذلك فإن القانون يتم تعديله قليلا لتضييق الخناق على هذا النوع من المحاسبة، أن استطاع المشرعون فعل ذلك.

في الأسبوع الأخير من شهر كانون الثاني (يناير) صرح مسئول في اللجنة الأولمبية الدولية أن إدارة اللجنة قررت طرد ستة من المسئولين الكبار بعد افتضاح أمرهم حول الرشاوي والوسائل غير اللائقة التي اتبعوها لتحديد المدينة الفائزة لاستضافة الدورة الأولمبية في العام 2002. وقد اختيرت Salt Lake City في الولايات المتحدة وسط اتهامات بان عددا من المسئولين استلم رشاوى لتفضيل هذه المدينة على غيرها. والتحقيق لازال جاريا في أكبر فضيحة تعصف باللجنة الدولية ويتوقع أن يتم تغيير الإجراءات المتبعة لتحديد المدنية المفضلة بضمنها منع الزيارات المخصصة لمسئولي اللجنة للمدن التي تطرح اسمها في المسابقة.

المطرودون الستة متهمون باستلام رشاوى يصل مجموعها لثلاثة أرباع مليون دولار من المدينة الأميركية، وهذه الرشاوي ليست كلها نقدا وإنما تحتوي على بعثات، علاج طبي وأمور أخرى. الدافع للرشوة أميركي الهوية، المستلمون للرشوة ينتمون إلى أميركا الجنوبية وإفريقيا. المرض، إذن، منتشر ليس فقط في الدول الفقيرة وإنما في كل مكان. غير أن الفرق هو أنه في البلدان المتقدمة يمكن ملاحقة هذا المرض ومعاقبة المرضى، أما في بلدان أخرى فإن المرضى هم المسئولون الذين لا يستطيع أي شخص مساءلتهم. أنهم المسئولون ابتداء من أعلى شخص في الوزارة حتى أصغر موظف يحاول الصعود في الوظيفة.

فالصعود في السلم الوظيفي لا يعوج أساسا للكفاءة والقدرة، وإنما لمدى تعاون هذا الشخص مع من هو أعلى منه في "تمرير" الأمور و"تسهيل" المهام. هذه هي النتيجة الحتمية لكل بيروقراطية لا تخضع لسيطرة جهاز سياسي نظيف.

جوناثن ايتكن، وزير سابق في عهد حزب المحافظين البريطاني، اعترف في شهر كانون الثاني (يناير) أنه كذب على المحاكم وأنه أستلم رشاوى كثيرة من حكام عرب في مقابل مناقصات الأسلحة التي صدرت لدول الخليج. وينتظر ايتكن أن تصدر المحكمة ضده حكما بالسجن بعد أن أصبح أسمه رمزاً للفساد والرشوة. ايتكن خسر كل شيء، وقام قصر الملكة اليزابيث بنزع اللقب الذي تمنحه الملكة لكل شخص يصل لمنصب وزاري (Honourable) وتم طرده من جميع المجالس الاستشارية وغير الاستشارية التابعة للدولة البريطانية. هذا الشخص بذاته كان صديقا قويا للسفارات الخليجية في لندن ومدافعا حميما عن "العادات العربية" التي لا تسمح "بإقامة نظام على نمط وستمنستر في منطقة الخليج"، وكان أحد أهم الأشخاص الذين تعتمد عليهم بعض الأنظمة لمواجهة معارضيها في لندن. وهذا النوع من السياسيين يشكلون الأنموذج المطلوب لكثير من أنظمتنا التي لا تحترم الأمانة الملقاة على عاتقها لإدارة شئون البلاد.

السرقة تحت أي عذر كان وبأي وسيلة كانت مرفوضة ويعاقب عليها القانون العادل وتحاربها جميع الأديان والشرائع.

والسرقة الواضحة أقل خطرا من السرقة المتخفية خلف التبريرات التي يطرحها كثير من عديمي الكرامة لأنفسهم لكي يسطوا على مال الآخرين" سواء كان ذلك السطو على المال العام أو المال الخاص.

في عصر التعددية، تتعدد الوسائل والأفكار ونقبل بها لكي نتعايش سليما. في عصر التعددية أيضا، تتعدد وسائل السرقة وتعدد وسائل القبض على السارق، لكي يعيش المجتمع بسلم وأمان.

العدد 1 - الجمعة 06 سبتمبر 2002م الموافق 28 جمادى الآخرة 1423هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً