سبق أن ناقشنا في فصل سابق حدوث التفاعل ما بين التطور الصوتي والتطور الدلالي، والذي ينتج عنه تراكيب مختلفة، ويبدو أن الغرض الأساسي من هذا التفاعل بين التطورين هو تخصيص دلالة الألفاظ، على سبيل المثال، تقول العامة في البحرين «فقش (فگش) فلان البيض» أي كسره، وتقول كذلك «فنقش فلان» أي مات، وأصل اللفظ في اللغة العربية، على ما جاء في معجم تاج العروس، فقس بالسين، ويقال أيضاً فقش بالشين، ولها عدة معان منها: «فقس أو فقش فلان البيض» أي كسره، ومنها كذلك «فقس أو فقش فلان» أي مات، لا حظ هنا فقس بمعنى مات من دون إقحام النون ولا وجود للفظة فنقس أو فنقش في كتب اللغة وإنما هي متطورة من الأصل فقش بالمغايرة مع تخصيصها لمعنى الموت، وقس على ذلك الألفاظ «خفس» و«خنفس» و«طمَّ» و«طَمْطَمْ» و«طَمبل»، وقد ذكرنا تفاصيل هذه الظاهرة في فصل سابق. كذلك الفعل «بغى» حين يأتي بهذه الصورة في اللهجات المتحدث بها في البحرين فهو يعني، في الغالب، «كاد»، وهو بذلك يعتبر من أفعال المقاربة. أما عندما يأتي بصوره المتطورة مثل: أبِّي وآبِّي وأمبي، فهو يعني «أريد».
«بغى» بمعنى أراد
صورة الفعل «بغى»، في هذه الصورة في صيغة الفعل الماضي، في اللهجات المحكية في البحرين، هي كما في اللغة العربية الفصحى، وهي بغى، «كما أنه لا يحدث مثل هذا في تفريعاته المختلفة التالية: بغى، باغٍ (اسم فاعل من الفعل الثلاثي)، مبغي (اسم مفعول من الفعل الثلاثي المجرد)، مبتغى (اسم مفعول من الفعل المزيد)، بغية (الاسم من هذا الفعل، وكذا مصدره)» (شبر 2001، الواحة العدد 23). إنما حدث التغير في صورة الفعل في صيغة الفعل المضارع، أي صيغة «يبغي» بمعنى يريد، فهذه الصورة لم تكن موجودة في اللهجات المحكية في البحرين، وحتى الخليج العربي، وقد ظهرت لاحقاً في اللهجات المحكية المتطورة، ويوجد تباين بين اللهجات في البحرين في صيغ «يبغي» المتطورة صوتيّاً، ففي لهجة العرب هناك صيغة واحدة له وهي «يَبِّي» بحذف الغين، وتشديد الباء وفتح حرف المضارعة، وعند اقترانها بالضمائر المتصلة تصبح: للمتكلم والمتكلمة (آبِّي)، وللمتكلمين (نَبِّي)، للمخاطب (تَبِّي)، للمخاطبة (تَبِّيّن)، وللمخاطبين (تَبُّوّن)، وللغائب (يَبِّي)، للغائبة (تَبِّي)، وللغائبين (يَبُّوّن).
أما في اللهجة البحرانية؛ فتوجد صيغ قديمة أصبحت قليلة الانتشار حاليّاً وصور قديمة باقية ومنتشرة بصورة أوسع من السابقة، وتوجد صور متطورة. فالصور القديمة قليلة الانتشار هي: يُمبى ويُمبي، وعند اقتران هذه الصيغ بالضمائر المتصلة تصبح: للمتكلم والمتكلمة (أمبى/ أمبي)، وللمتكلمين (نمبى/ نمبي)، للمخاطب (تمبى/ تمبي)، للمخاطبة (تمبين)، وللمخاطبين (تمبون)، وللغائب (يمبى/ يمبي)، للغائبة (تمبى/ تمبي)، وللغائبين (يمبون).
ويرى القصاب أن هذه الصيغة مرت بعدة مراحل من التطور حتى وصلت لهذه الصيغة؛ ففي «ما يبدو أن الصورة الأولى المتطورة عنها في بداية الأمر كانت (أبي) بحذف الغين للتخفيف، ثم شددت الباء فصارت: (أبِّي)، ثم فك الإدغام بإدخال النون مكان أحد التضعيفين (بحسب قانون المغايرة) فصارت (أنبي)، ولما كانت النون ساكنة بعدها باء تحولت إلى ميم فصارت (أمبي) بميم وباء مفخمتين قليلاً بعدهما ياء. (شبر 2001، الواحة العدد 23).
أما الصيغ القديمة الأكثر انتشاراً في اللهجة البحرانية من الصيغ السابقة؛ فهي «يُبَّى» و «يُبِّي» أي بحذف الغين وتشديد الباء وضم حرف المضارعة، وعند اقتران هذه الصيغ بالضمائر المتصلة تصبح: للمتكلم والمتكلمة (أبَّى / أبِّي)، وللمتكلمين (نُبَّى / نُبِّي)، للمخاطب (تُبَّى / تُبِّي)، للمخاطبة (تُبِّين)، وللمخاطبين (تُبُّون)، وللغائب (يُبَّى / يُبِّي)، للغائبة (تُبِّي / تُبِّي)، وللغائبين (يُبُّون).
وأما الصيغ المتطورة والتي يشيع استخدامها في اللهجة البحرانية المحكية حاليّاً؛ فهي «يِبغى» و»يِبغي»، وعند اقتران هذه الصيغ بالضمائر المتصلة تصبح: للمتكلم والمتكلمة (أبغى / أبغي)، وللمتكلمين (نِبغى / نِبغي)، للمخاطب (تِبغى / تِبغي)، للمخاطبة (تِبغِين)، وللمخاطبين (تبغون)، وللغائب (يِبغى / يِبغي)، للغائبة (تِبغى/ تِبغي)، وللغائبين (يِبغون). وهذه الصور تظهر في اللهجات المتطورة الأخرى في الخليج العربي كلهجة القطيف مثلاً، وفي هذا الصدد يقول السيد شبر القصاب: «والصورتان المفضلتان في الوقت الحاضر لدى جمهور المتعلمين والمثقفين لمضارع هذا الفعل هما (أبغى، يبغى)، و(أبغي، يبغي)، وخصوصاً عند التحدث مع غيرهم من غير أهل الواحة خشية الانتقاد عند من يخافه، أو في حديث ذي أسلوب علمي مقترب من الفصيح، لكنهم يؤوبون إلى الصور القديمة عند ما تعود لعترها لميس، وتجر الفرد منهم عفوية اللهجة التي تجري على لسانه سليقة من دون تكلف (شبر 2001، الواحة العدد 23).
«بغى» بمعنى كاد
في اللهجات المحكية في البحرين، وفي الخليج العربي بصورة عامة، يستخدم الفعل بغى بمعنى كاد، أي كفعل من أفعال المقاربة؛ وقد سميت بذلك لأنها تدل على قرب وقوع الخبر. وأفعال المقاربة في اللغة العربية الفصحى هي «كَادْ» و«أوشك» و«كرب»، وهذه الأفعال تعمل عمل كان، فترفع المبتدأ ويُسمى اسمها، وتنصب الخبر ويُسمى خبرها، لكنّ خبرها لا يكون إلا فعلاً مضارعًا نحو: كاد الوقت يقطعنا، وأوشك الماء أن يغيض، وكرب المطر يهطل. ولا تستخدم تلك الأفعال في اللهجات المحكية في البحرين وإنما تنوب عنها أفعال أخرى تساويها في معناها، ومنها ما له خصوصية بلهجة معينة، وهي بغى (بدل من كَادْ) و گَرَّبْ، أي قارب، (بدل من أوشك وكرب) و بَدَّا (بدل من أوشك وكرب)، بالإضافة إلى عدد من المصطلحات مثل: «باگَي، أي باقي، شوي أو شْوَيَّةْ» و«لَو مَا شْوَيَّةْ چَانْ» وهو ما سنتناوله بالتفصيل في الفصل المقبل، وسنتناول في هذا الفصل الفعل بغى بمعنى كاد في جميع اللهجات المحكية في البحرين. ليس من الغريب أن يستعمل الفعل بغى بمعنى كاد، فبغى في اللغة بمعنى أراد، وهناك تشابه أو تقارب بين «كاد» و «أراد»، فقد تأتي أراد بمعنى كاد، أو العكس أي كاد بمعنى أراد وذلك بحسب ما ذكر بعض اللغويين، كقول الزركشي في كتابه البرهان:
«قاعدة (في مجيء كاد بمعنى أراد) تجيء كاد بمعنى أراد، ومنه قوله تعالى: «كَذِلكَ كِدنَا لِيُوسُفَ» (76: يوسف)، «أَكادُ أُخْفِيهَا» (15: طه). وعكسه، كقوله تعالى: «جداراً يُّريدُ أَنْ يَّنقضَّ» (77: الكهف)، أي يكاد» (البرهان ج4 ص 139، ردمك 1957، النسخة الإليكترونية).
وبالمنهج نفسه يقارب القصاب بين بغى وكاد من ناحية أخرى: «بغى بمعنى (أراد)، لأنهم شبهوا (كاد) بأراد، وأخواتها، لذلك جوزوا دخول أن عليه كما في: «كِدْتُّ أَنْ أَذْهَبْ»، ولهذا يسعنا في اللهجة أن نقول: «بَغَى يِضْرُبْ الوَلدْ»، أي: كاد يضرِب الولد، و«بَغَى الِمسْمارْ يِضْرُبْ رْجُولِي»، أي: كاد المسمار أن يصيب رجلي، وهو لا يؤدي معنى الفعل إلا إذا كان في حالة الماضي وحسب» (القصاب 2004، الواحة العدد 32). لاحظ أنه في المثل السابق لو أنه أراد أن يقول «أراد أن يضرب الولد» لقال، في الغالب، «كان يبغي يضرب الولد» بدلاً من «بغى يضرب الولد».
العدد 3717 - الجمعة 09 نوفمبر 2012م الموافق 24 ذي الحجة 1433هـ