لست ناقداً للسينما ولكني محب لها ومثابر على متابعة نوعيات معينة من الأفلام.
على امتداد 40 عاماً تابعت ثلاثة أجيال سلسلة أفلام جيمس بوند عميل صاحبة الجلالة، ومع كل فيلم إثارة جديدة وإبداع جديد يتناوب الممثلون والمخرجون لكن المؤلف العبقري واحد وهو ايان فلمنغ الملهم لهذه السلسلة الجاسوسية، والذي مات دون أن يشهد إلا بداية ولادة حلمه، ولكن ليس أوج هذا الحلم.
كنت في الثانوية في بيروت عندما شاهدت لأول مرة في عام 1963 أول فيلم من سلسلة جيمس بوند «دكتور نو»، و«من روسيا مع حبي»، في سينما ريفولي بساحة الشهداء في بيروت.
جيمس بوند
جسد الاسكتلندي شون كونري شخصية جيمس بوند العميل 007 حتى شاهدت بالفيديو آخر سلسلة أفلام جيمس بوند سكاي فول «سقوط السماء»، واستمعت بتكرار الأغنية الرائعة دع السماء تسقط «Let The Sky Fall». وللغرابة فإنها في نهايتها تستعيد نغمة فيلم غولد فنغر ثاني أفلام السلسلة. وقد استمر تتابع إنتاج 22 من أفلام جيمس بوند من عام 1962 حتى اليوم مع توقف لست سنوات من 1989 حتى 1995. وتم إنتاج جميع الأفلام من قبل شركة ايون للإنتاج (Eon Production) بمعدل فيلم كل سنتين، وعادة ما يتم إنتاجها في أستوديوهات بين وود (Pinwood) وحسب بعض التقديرات فقد حققت أفلام جيمس بوند ما يزيد على 5 بليون دولار ويأتي في المرتبة الثانية بعد سلسلة أفلام هاري بوتر.
تعاقب ستة ممثلين على تجسيد شخصية جيمس بوند وهم من جنسيات مختلفة ضمن سلسلة إنتاج ايون، وهم شون كونري (اسكتلندي)، جورج لازنبي (إنجليزي)، روجر مور (أسترالي)، تيموثي دالتون، بيرس بروسنان، ديفيد نيفن (إنجليزي) ودانييل كريغ وهو بريطاني وآخر من جسد مجموعة أفلام جيمس بوند.
وباستثناء شون كونري أول من مثل شخصية جيمس بوند والذي كان ضعيف البنية وغير وسيم بل أصلعاً جرى وضع باروكة على رأسه، فإن باقي الممثلين وخصوصاً دانييل كريغ وسيمين وذوي عضلات ورياضيين.
كذلك تتابع المخرجون على سلسلة أفلام جيمس بوند ومنهم تيرنس يونغ، جي هاملتون، لويس غيلبرت، بيتر هنت، جون غلين، مارتن كامبل، مارك فورستر، سام فندر، ضمن سلسلة ايون وارفن كريشنر وآخرين خارج سلسلة ايون.
ولكل مخرج أسلوبه، لكنها جميعاً أسست لأسلوب في الإخراج، أسلوب جيمس بوند والذي هو توليفة بنجمة من الإثارة والتشويق والذكاء والحب والحرب والتكنولوجيا. مما يذكر أن بعض تكنولوجيا الخيال في أفلام جيمس بوند قد تم تطويرها فعلاً لابتكارات فعلية، مثل سيارة أوستن مارتن الشهيرة في أفلامه، والتي يمكن أن تتحول إلى سلاح قاتل وتطير وتبحر وتغوص في الماء أيضاً. كما تم تطوير المسدسات الكاتمة للصوت فعلياً مستمدّينها من فكرة مسدسات بوند.
ولاشك أن إنتاج أفلام جيمس بوند في بريطانيا بممثلين ومخرجين معظمهم بريطانيون وتصوير كثير منها في بريطانيا وفي أستوديوهات بريطانيا جعلها ماركة بريطانية وأسهم في ازدهار الصناعة والتجارة البريطانية، وأعطى سمعة أسطورية للمخابرات البريطانية. ويجب أن نتذكر أن كثيراً من أفلام جيمس بوند تدور حول قيام العميل 007 باقتحام المعاقل الشيوعية الحصينة في موسكو وبراغ وبرلين وبيونغ يونغ، ويحقق الهدف في وقت كانت فيه سمعة المخابرات في البلدان الاشتراكية رهيبة. لكن الوضع تغير مع انهيار الاتحاد السوفياتي والمعسكر الاشتراكي في 1991، ولذا توجب تغيير العدو من الاتحاد السوفياتي إلى المافيا الروسية. بالطبع ومنذ الفيلم الأول فقد استعان المخرج تيرنس يونغ ومن بعده المخرجان الآخران بممثلات جميلات من مختلف الجنسيات حسب متطلبات كل فيلم ومنهن بالطبع أولاً الفرنسية كلودين اوجير وانتهاء بالفرنسية بيرنتس مارلو، وممن بينهن جميلات من مختلف الجنسيات سلمى حايك العربية المكسيكية، ميشيل فايفر الأميركية. وكما المخرجون فقد تتابع الموزعون أيضاً على إنتاج أفلام جيمس بوند، فقد تولت شركة الفنانين المتحدين (United Artists) التوزيع منذ أول فيلم «دكتور نو» في عام 1962 حتى فيلم «من أجل عينيك» فقط (1981)، ثم تولت شركة انترتينمنت التوزيع من 1982 حتى 1995، وتولت شركة أم.جي.أم. (MGM) التوزيع خلال الأعوام 1997 حتى 2002 حين انتهت أستوديوهات يونيفرسال كشركة مستقلة.
ومنذ 2005 تولى كونسرتيوم كلاً من إم.جي.إم (MGM) وكولمبيا (Colombia)، توزيع الأفلام ومنذ نوفمبر/ تشرين الثاني 2010 وبعد أن اشترت شركة سوني اليابانية شركة (إم.جي.إم)، فيما استمرت كولمبيا كشريك لسوني في توزيع سلسلة دانجك (من أفلام جيمس بوند). وإلى جانب الأفلام السينمائية ضمن سلسلة إيون فقد أنتجت 3 أفلام تلفزيونية وهي «كازينو رويال» 1954 وممثلة باري نيلسون الذي تحول لاحقاً إلى فيلم سينمائي، وفيلم «لا تقل لا أبداً» ونسخة تلفزيونية أميركية من «كازينو رويال» (1967) ممثلة ديفيد نيفن.
جيمس بوند في مواجهة إمبراطورية الشر
إمبراطورية الشر هو الاسم الدي أطلقه الرئيس الأميركي الراحل رونالد ريغن على الاتحاد السوفياتي، وفي عدد من أفلام جيمس بوند بدءاً بفيلم «دكتور نو» فإن العميل 007 في خدمة صاحبة الجلالة جيمس بوند مكلف بمواجهة إمبراطورية الشر ومواجهة المعسكر الاشتراكي. وحيث إنه لم يكن مسموحاً بتصوير أفلام جيمس بوند في الاتحاد السوفياتي أو حلفائه في المعسكر الاشتراكي فقد عمد المخرجون إلى تصوير الأفلام المرتبطة بالمواجهة مع الاتحاد السوفياتي في بلدان قريبة مثل فنلندا بما في ذلك مشاهد المدن مثل موسكو وبراغ. وفي هذه المجموعة من الأفلام فإن جيمس بوند يقاتل خلف الحدود وحيداً في معظم الأوقات، ويتم إيصاله إلى الموقع المطلوب بطرق غير مألوفة مثل الغواصة أو الطائرة الشبح أو كمسافر متنكر.
جيمس بوند في مواجهة العصابات
مع انهيار الاتحاد السوفياتي في 1991، كان لابد من التحول لعدو الغرب من الاتحاد السوفياتي إلى عصابات الجريمة المنظمة ومنها المافيا الروسية أو كوريا الشمالية.
شخصيات الممثلين المتباينة
على رغم أنه من المفترض أن يتقمص الممثل الشخصية الواردة في السيناريو سواء أكان بطلاً أو كومبارس، فإن الممثل الموهوب هو من يضفي جزءاً من شخصيته على الفيلم، وهذا صحيح بالنسبة لأبطال سلسلة جيمس بوند أولهم شون كونري، الذي مثل أول خمسة أفلام من السلسلة من 1962 حتى 1971 وهو يتمتع بقدر كبير من السخرية اللاذعة والجاذبية، وقد تجلى ذلك في الأفلام التي مثلها «دكتور نو»، «من روسيا مع حبي»، غولد فنغر، ثندر بولت، أنت تعيش مرتين. ونستطيع ن نلخص السخرية اللاذعة والجاذبية والقدرات التمثيلية لشون كونري في العشرات من الأفلام التي مثلها بعد سلسلة جيمس بوند حتى الآن.
الممثل الثاني هو روجر مور الذي بقي مع الدور لاطول مدة وحقق 7 أفلام في الفترة ما بين 1973 حتى 1985، حيث بدأ تمثيلها وعمرة 45 عاما حتى بلغ 57 عاما. ومور يختلف عن كونري، كونه يفتقد إلى سحر وسخرية كونري، إلا إنه بالمقابل أكثر تلقائية وفانتازيا وتعقيد أو يمكن ان يكون ذلك تصور المخرج لشخصية بوند.
الثالث هو بيرس بروسنان مثل 4 أفلام في الفترة ما بين 1995 - 2002 يفتقد إلى سحر كونرى لكنه حاول تجنب أخطاء مور، وهو قد جسد المزيج من الفنتازيا والواقعية والعاطفة الجياشة، كما أن بروسنان بدأ تجسيد شخصية بوند في عمر متأخر بعد أن اضطرته ظروف مرض زوجته بالسرطان إلى التخلي عن العروض الأولى. وقد مثل بروسنان شخصية بوند في مرحلة ما بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، ولذا فالعدو هنا ليس الاستخبارات الروسية (ك.جي.بي) أو الألمانية، وإنما العدو مافيا الجريمة المنظمة والعصابات الإرهابية.
الرابع هو دانييل كريغ وهو من يمثل شخصية بوند منذ 2006 مبتدئاً بفيلم «كازينو رويال» وانتهاءً بفيلم «سقوط السماء» الحالي والفيلم المنتظر «بوند 24». بوند الجديد هو العميل السري لجلالتها في عصر العولمة وتكنولوجيا المعلومات والمخترعات المبهرة. دانييل كريغ يتمتع بجسد وقدرات رياضية مذهلة، وقد بدأ تمثيل شخصية بوند في عمر 37 أي أنه الأكثر شباباً من بين من مثلوا بوند، وهذا يتماشي مع تسنم الشباب في العالم مواقع قيادية على حساب المخضرمين، وهذا ينطبق أيضاً على السينما. كريغ ليس وسيما مثل سابقيه، فملامح وجهه صارمة، كما أنه ليس ساحر النساء، لكنه البطل الصارم الذي لا يرحم والذي يجتذب النساء بفضل رجولته وقوته. وقد حقق فيلمه الأول «كازينو رويال» أعلى دخل في سجل سلسلة أفلام بوند السابقة، ويدشن بذلك مداخيل خيالية وأرقاماً قياسية للمشاهدين سواء في الثيمات أو مبيعات DVD. كما أن علينا أن ندرك أن ثورة المعلومات دخلت مرحلة الأوج، وبالتالي فإن الترويج والمشاهدة تتم عبر الشبكة العنكبوتية وهو ما زاد من عدد المشاهدين والمداخيل بدرجة كبيرة.
آخر أفلام كريغ هو فيلم «سقوط السماء»، والذي كرس له المنتجون إمكانيات ودعاية ضخمة حيث يصادف إطلاقه الذكرى الخمسين لانطلاقة سلسة أفلام بوند. وقد حقق الفيلم نجاحاً مبهراً كما أن أغنيته «دع السماء تسقط» لأديل تصدرت أنجح عشر أغانٍ لأسابيع. ومن الملاحظ في فيلم سقوط السماء أنه إلى جانب كريغ فهناك ممثلون وممثلات مشهورات مثل البرت فيني ورالف فيني وقد صور الفيلم في اسكتلندا وجنوب إفريقيا واسطنبول.
فتيات بوند
منذ أول فيلم في سلسلة أفلام بوند وهو «دكتور نو» حتى آخر فيلم «سقوط السماء»، اشتهرت نساء بوند بأنهن خارقات الجمال ومن جنسيات مختلفة تبعاً لموضوع الفيلم، وممن تتراوح أعمارهن ما بين العشرين والثلاثين، ويصغرن بوند بعشر سنوات بالمعدل. ممثلات وفتيات بوند بعضهن ممثلات مشهورات مثل ميشيل فايفر أو صوفي مارسو أو سلمى حايك، كما أن بعضن مغمورات حينما مثلن مع بوند لكنهن اشتهرن لاحقاً ومنهن كلودين أوجير الفرنسية. الملاحظ كذلك أن فتيات بوند من مختلف الجنسيات غير المألوفة أيضاً صينيات ويابانيات وصربيات مثلاً، كما يلي بريطانيا (22)، أميركا (15)، فرنسا (6)، إيطاليا (4)، السويد (3)، اليابان (2) وواحدة من كل من ماليزيا والصين وألمانيا وروسيا وجامايكا وإيرلند وبولندا ونيجيريا والفيلبين وكرواتيا وبعضن بالطبع مزدوجات الجنسية مع دول غربية مثل فرنسا وبريطانيا وأميركا.
وغالباً ما تكون فتاة بوند خصمه في الفيلم كجاسوسة أو طعم لكن فتيات بوند يقعن دائماً في حبه ويستميلهن إلى جانبه ويستخدمهن في صراعه مع من جندهن، وقليل منهن بالأصل لدعمه ولكن غالباً من دون علمه. الجنس يكون أساسي في أفلام بوند ولكن ليس لدرجة البرونو لكن الجنس لا يغري بوند عن مهمته بل يستخدمه من أجل مهمته مع الطرفين.
الخلاصة
تشكل سلسلة أفلام بوند علامة فارقة في تاريخ وصناعة السينما فهي أطول سلسلة من الأفلام في تاريخ السينما وامتدت لأطول فترة كذلك أي أكثر من 50 عاماً، تغير فيها العالم كثيراً وتتابعت أجيال من مشاهدي السينما لكنهم جميعاً عشقوا أفلام بوند. ومن المفيد ذكره أن أفلام بوند تستند إلى قصص قصيرة كتبها القصاص الإنجليزي إيان فلمنغ. وتتجلى عبقرية فلمنغ والذي عمل في الاستخبارات البريطانية الخارجية لفترة، لكنه أضاف لتجربته العملية خيالاً خلاقاً، وتنبأ بابتكارات تكنولوجية تحققت فعلاً مع الزمن.
العدد 3717 - الجمعة 09 نوفمبر 2012م الموافق 24 ذي الحجة 1433هـ