تتزاحم الأولويات أمام أي طرف سياسي، سواء كان ماسكا بزمام دولة صغيرة أو كبيرة، أو كان السياسي يعمل ضمن جهة تعارض الحاكم والمسيطر علة الشأن العالمي أو الإقليمي أو المحلي أو المتفرع من الوضع المحلي كالجمعيات الأهلية وغيرها. الأولويات السياسية تتحدد حسب الأهمية التي يوليها القائمون على الأمر للمنطلقات الأساسية. ويمكن إرجاع تلك المنطلقات لأربعة توجهات هي الايديولوجيا، الاقتصاد، الأمن والاستقرار، والحقوق. فإذا قيل أن هذه الحكومة تغلب الايديولوجيا على الاقتصاد فان ذلك يعني أن الأفكار والمبادئ التي يؤمن بها الماسكون بزمام المر تعتبر من الأهمية بمكان بحيث يتم التضحية بالاقتصاد والتنمية دون التنازل عن سياسة أيديولوجية محددة.
وكذلك أيضا إذا صرح أحد المسئولين السياسيين على المستوى الدولي أو المحلي انه يعير موضوع المن والاستقرار الأولوية فإن ذلك مؤشر على أن هذا المسئول مستعد للتضحية بحقوق الآخرين حتى لو كانت تلك من الحقوق الأساسية وطبيعية. والتطرق في أي جانب من الجوانب الأربعة يسبب ضعفا في الجوانب المقابلة. والحكمة تمكن في الاعتدال بين جميع هذه الأولويات بما يحفظ التوازن والعدالة والذوق الإنساني والسمو الأخلاقي. وبما أن هذه القضايا خاضعة للظروف والإمكانيات فإن الاختلاف بين البشر يعتبر أمرا طبيعيا. والأمم التي صعدت وقدمت هي التي عرفت كيف تختلف وكيف تدير شئونها ضمن إطار معين يمثل الاجتماع المتفق عليه.
وبطبيعة الحال فإن هناك وسائل أخرى لعدم الاختلاف. هذه الوسائل ترتبط بمنطق القوة والعنف والسلطة المطلقة. ويمكن لحاكم ما أن يتحدث عن حالة طوارئ مستمرة في البلاد التي يحكمها، وان الأمن والاستقرار هو الموضوع الأهم الذي توظف له جميع إخماد أي صوت وأي خلاف. ويستطيع الحاكم أن يستأنس بقراءة المدح من مواطنيه وان يفخر أمام الآخرين بان شعبه يوافقه بنسبة 99.99 بالمئة. وقد يكون هذا صحيحا لأن جميع من خالفه تم التخلص منه، وربما يكون أفضل مكان للقضاء على الخلاف والاختلاف هو "المقبرة". والحاكم الذي يريد توظيف إمكانيات الأمة لحفظ الأمن والاستقرار يتجه مع الأيام لتبرير ذلك بالقول أن هناك من يستمر في "تهديد أمن الدولة". وتجتهد أجهزة أمن الدولة في "اكتشاف" و"اختراع" المزيد من المؤامرات لتبرير توسيع تلك الأجهزة وتوظيف المزيد من الإمكانيات. ثم ينتقل المر لان يرتبط هذا الأمن والاستقرار بوجود وحياة واستمرار حكم هذا الشخص بعينه دون غيره. ولذلك يجنح الحاكم مع الأيام للاعتماد على أشخاص يستطيع الوثوق بهم وهؤلاء لا يمكن إيجادهم بسهولة لان الأمر لم يقم على قناعة فكرية.
وبالتالي يجنح الحاكم للاعتماد على الأشخاص الذين يرتبطون به على أساس القربى أو ارتباط المصالح الشخصية بصورة وثيقة.
وعلى هذا الأساس فإن الحاكم لا يرى تفريقا بين شخصه وبين الدولة، ويقرر بذلك ما قاله الملك الفرنسي لويس الرابع عشر "أنا الدولة". الدولة هي أنا، وأنا أساس الأمن والاستقرار والعزة والهيبة لهذه "الأمة العقيمة" التي من الله بي عليها. ولكي احفظ لهم نعمة الأمن والاستقرار فسوف أمن عليهم بمن ينيبني في الحكم من أبنائي. وسوف لن أتورط في ذلك بعد أن أحول الدولة لتركيبه هائلة قائمة على وجودي ووجود من اقبل بهم. اما أولئك الذين يحاولون "خلعي" فسوف أكون واضحا معهم وسأبلغهم أن عليهم الاستعداد لاستلام أرض خربة وان يخوضوا بحرا من الدم قبل أن يصلوا إلى أبواب قصري.
كانت ولازالت هذه هي الأفكار التي تتغلغل في رؤوس الذين حرموا من نعمة رضا المحكومين. ويشعر هؤلاء الحاكمين بالتعاسة رغم ما يملكونه من زعامة ورئاسة ومكانة. هذا ما تؤكده أحاديثهم وممارساتهم. يقول أحد الوجهاء أن حاكم احد البلدان دعانا (مجموعة من الوجهاء) للحديث معنا حول الأوضاع المتفاقمة في البلاد. وكان كلما طرح الحاكم سؤالا جاءه جواب واحد من جميع الحاضرين. هذا الجواب يكرر المدح والثناء ويحرضه على عدم الاكتراث بالمصاعب لان جميع الشعب معه وان الوجهاء وغير الوجهاء يساندونه في كل ما يقوم به. يقول هذا الشخص، بعد فترة من هذا النقاش المكرر نطق احد الحاضرين قائلا: " أن الوضع سيء ويحتاج لمعالجة صريحة". وهنا صمت الجميع وبدأ كل واحد منهم يستعد للخروج من المجلس. إلا أن الحاكم شعر بالحاجة للحديث لذلك الشخص الذي نطق بغير العتاد. وفي الوداع، طلب من ذلك الشخص أن يجلس لكي يتحدث معه لوحده. كان الحاكم سعيدا لأنه محروم من سماع الصدق ومن الاجتماع بالصادقين. والأكثر من ذلك فإن الحاكم محروم من الأمن رغم أولوية "الأمن والاستقرار". وصدق من وصف الخليفة عمر بن الخطاب (رض) بقوله: "عدلت فأمنت فنمت".
العدد 1 - الجمعة 06 سبتمبر 2002م الموافق 28 جمادى الآخرة 1423هـ