عصرنا يحتوي على متناقضات كثيرة. ففي الوقت الذي تسعى دول غنية وكبيرة للاتحاد ضمن الاتحاد الأوروبي وتوحيد العملة وبناء كيان سياسي مواز للولايات المتحدة الأميركية، هناك دول صغيرة ومدن هنا وهناك تسعة لاستقلالها. ففي اوروبا ذاتها هناك مثلا "اندورا" وفي مدينة مضغوطة على الحدود الفرنسية – لاسبانية، التي خرج أهلها البالغ عددهم قرابة خمسين ألفا، وطالبوا باستقلالهم وصلوا عليه في العام 1993. وبهذا أصبح لهم علم ومقعد في الأمم المتحدة.
في العام 1997، خرجت مجموعة من الرجال في مدينة البندقية الايطالية (في ذكرى مرور مائتي عام على دخول نابليون المدنية)، ورفعوا علما خاصا بالمدينة وطالبوا باستقلالهم في الولايات المتحدة هناك ولاية "تكساس" التي يطالب بعض مواطنيها بالاستقلال وهناك ولايات أخرى أيضا تحتضن عصابات مسلحة تستعد للقتال من أجل التحرر من الحكومة الفيدرالية في أوكلاهوما قبل أربع سنوات.
في كندا، يطالب كثير من أهالي مقاطعة "كوبك" الفرنسية بالانفصال عن كندا واعلان دولة مستقلة ترتبط بمعاهدات مع بقية كندا. وهناك العديد من الناس في اسكتلندا وويلز يطالبون بالاستقلال من بريطانيا.
غير أن الدعوة للانفصال ليست كتلك الدعوات القديمة التي قامت في القرن التاسع عشر في أوروبا والتي على أساسها تأسست الدولة القومية الحديثة. فالذين يدعون للانفصال، يطالبون في الوقت ذاته بالارتباط اقتصاديا بالمناطق المجاورة لهم. بمعنى آخر فإن الدولة القومية ربما تمر بحالة مشابهة للحالة التي مرت بها الملكية المطلقة في أوروبا.
فالدولة القومية التي تأسست أما أنها حكمت الملك المطلق أو قيدته بدستور. الدعوات الحالية تطالب بتقييد الصلاحيات المركزية للدولة القومية. لهذا فإن بريطانيا (المحكومة مركزيا من لندن) سوف تحاول التناغم مع الطرح الجديد من خلال تقليص صلاحيات المركز وتوزيع السلطات إلى المناطق.
الأمم المتحدة، سوف يتضاعف عدد دولها مع استمرار المطالبة بالاستقلال. والشواهد تشير إلى احتمال نجاح عدد لا بأس به من المدن والمقاطعات بالحصول على استقلالهم وبالتالي الدخول في الأمم المتحدة كأعضاء يجلسون جنبا إلى جنب مع ممثلي دولتهم السابقة. تصوروا ماذا سيحدث عندما تحصل هذه الممارسة السياسية على شرعية دولية، وتنتشر الحمى إلى جميع مناطق العالم، إلى الصين والهند وأميركا الجنوبية وغيرها. ربما يصبح هناك ألف دولة عضو في الأمم المتحدة.
فلنتصور أيضا أن هذه الدول الجديدة ليست دولا انفصالية عدوانية، وإنما دول صغيرة متقاربة من بعضها الآخر تحتفظ بأسس حسن الجوار وترتبط فيها بينها باتفاقات دفاعية مشتركة تستخدم عند الحاجة فقط. معنى هذا أن الدول الصغيرة سوف تكون أكثر فاعلية، لأنها سوف لن تحتاج للأجهزة الضخمة التي تحتاجها دول اليوم. وتماما كما أن الصف الصغير بتلاميذ قليلة يستفيد من دروس الإسناد أكثر من الصف الكبير، فان المواطنين في تلك الدولة سيكون أكثر استفادة من طاقاتهم المحلية، بدلا من تعطيل تلك الطاقات بانتظار موافقة السلطة المركزية البعيدة جدا.
تصوروا أيضا أن الأمم المتحدة أصبحت منظمة ديمقراطية، لا تسيطر عليها دول خمس أو خمسي عشرة، وإنما هي برلمان دولي بهيئة تنفيذية للفصل بين النزاعات على أساس إنسانية! تصوروا أيضا أن المتواجدين في تلك المنظمة الدولية يخضعون لعملية ديمقراطية داخل دولهم وإنهم ليسوا استبداديين يوظفون إمكانيات وطنهم لقمع شعوبهم! تصوروا أن الشعوب العالمية استفادت من الثورة الاتصالات والمواصلات وبدأت تتعرف على بعضها الآخر، تصوروا أيضا أن القبلية تعود من جديد ولكن بمحتوى جديد! فالقبلية البغيضة هي عندما يرى فرد ما أن أشرار قومه أفضل من خيار قوم آخرين، وهي أيضا تلك التي ترى لنفسها الحق بدون غيرها. تصوروها تعود مرة أخرى، ولكن بدلا من أن تكون قبلية وعصبية تقوم على القرب والنسب، فإنها تقوم على تقارب المفاهيم والأذواق والصالح المشروعة. وهذه القبلية ليست واحدة، وإنما لكل شخص بإمكانه أن يصبح فردا في عدة قبائل في آن واحد!
تصوروا أيضا أن هذا الفرد بإمكانه أن ينتمي لهذه القبيلة أو تلك، ثم يستطيع الانفصال عنها عندما تتغير ظروفه أو ظروف تلك القبيلة.
تصوروا أن مفهوم المواطنة الصالحة يتطور إلى الأمام. فالمواطن هو كل فرد وكل جمعية وكل شركة. فالشركة هي مواطن عالمي صالح، تخدم البلاد التي تنشط فيها.
وإذا كانت هذه الشركة لا تبيع ذا النوع من الجبن أو العسل في أوروبا لأنه سيء الجودة، فإنها أيضا لا تبيعه في إفريقيا أو آسيا!
حدثت أحد أصحابي بهذه التصورات فقال أن هذه الأحلام جميلة وقابلة للتحقيق ولكنها غير عملية وصعبة جدا كصعوبة عقد مؤتمر قمة عربي أو خليجي أو إسلامي يلبي طموح المواطن العادي. على هذا الأساس فان أحلامي ستتوقف قليلا بانتظار الحل السحري لمؤتمرات قممنا...
العدد 1 - الجمعة 06 سبتمبر 2002م الموافق 28 جمادى الآخرة 1423هـ