تبدأ منظمة الأمم المتحدة احتفالاتها هذا الأسبوع بمناسبة مرور خمسين عاما على الإعلان العالمي لحقوق الإنسان. ففي العاشر من كانون الأول (ديسمبر) 1998 ستكتمل الاحتفالات في الأمم المتحدة من خلال التوقيع على إعلان عالمي جديد. الإعلان الجديد يختص بالدفاع عن "المدافعين عن حقوق الإنسان" إذ أن هناك العديد من المتعلقين السياسيين الذين تضطهدهم حكوماتهم بسبب قيام هؤلاء بالدفاع عن حقوق المواطنين في بلدانهم.
حقوق الإنسان كانت ولا تزال من أهم المواضيع المطروحة على الساحة الدولية، وهناك تصارع بين الأيديولوجيات والدول حولها. وتنقسم حقوق الإنسان إلى قسمين رئيسين، القسم الأول: حقوق سياسية ومدنية، والقسم الثاني: حقوق اقتصادية واجتماعية.
الحقوق السياسية والمدنية تركز على حرية الإنسان في التعبير عن رأيه والمشاركة في إدارة شؤون بلاده وحمايته من التعذيب والإهانة. الحقوق الاقتصادية والاجتماعية تركز على حق المجتمع في التنمية والاقتصادية والتنمية البشرية.
هناك من يطرح أن الحقوق السياسية والمدنية يجب أن تسبق التنمية الاقتصادية – الاجتماعية، بينما يطرح آخرون وجوب تقديم التنمية (الجماعية) على الحقوق (الفردية). غير أن الإعلان العالمي ينص على أن جميع هذه الحقوق هي مترابطة، تعتمد على بعضها الآخر، غير قابلة للفصل أو التقديم أو التأخير، وأنها تدعم بعضها الآخر. بمعنى آخر فإن الموقعين على الإعلان العالمي (وهم جميع الدول الأعضاء في الأمم المتحدة) يجب عليهم احترام جميع حقوق المواطنين، سواء كانت سياسية ومدنية أو اقتصادية – اجتماعية.
وعلى هذا الأساس فإن ادعاء دولة ما بأنها تهتم بالتنمية البشرية فقط بينما تعتقل وتعذب وتحرم مواطنيها من الحقوق السياسية والمدنية، أمر غير مقبول على الساحة الدولية. والدول التي تحتمي بالقول بأن مسئولياتها تتحدى توفير الأكل والملبس بينما تحرمهم من أمنهم الشخصي للحفاظ على أمن الدولة، إنما تقول ذلك للتهرب من مسئولياتها أم التزاماتها الدولية. ومثل هذا الحديث قد يستفاد منه في سبيل الهاء الرأي العام – الداخلي أو الخارجي – إلا أنه لا يقدم ولا يؤخر من الأمر شيئا.
الأمر الآخر الذي تطرحه بعض الدول هو اتهام الآخرين بالتدخل في شؤونها الداخلية إذا اعترض أحدهم على انتهاكات حقوق الإنسان. غير أن هذا الاعتراض ليس في محله.
وهناك الآن سعي حثيث لتمكين "القانون الدولي لحقوق الإنسان" وتوفير الوسائل الدولية لتقديم شكاوى "المحكمة دولية" ضد أي طرف، وأي دولة، وأي جهة تمارس التعذيب وإهانة الإنسان، سواء كان ذلك داخل سيادتها وأراضيها أم خرجها. والقانون الدولي لحقوق الإنسان هو مجموعة المعاهدات الدولية التي وقع عليها العديد من دول العالم كالعهدين الخاصين بالحقوق المدنية والسياسية والثقافية والاقتصادية والاجتماعية، بالإضافة للبروتوكولات والمعاهدات الأخرى الخاصة بمنع التعذيب والتمييز العنصري وانتهاك حقوق المرأة والطفل. المجموعة الكاملة لهذه المعاهدات والعهود والاتفاقيات والبرتوكولات هي ما يطلق عليها بالقانون الدولي لحقوق الإنسان.
القانون الدولي لحقوق الإنسان
القانون الدولي لحقوق الانسان يحتوي على الاعلان العالمي لحقوق الانسان والعهدين الدوليين والاتفاقيات الدولية الخاصة بمواضيع تتعلق بحقوق الانسان.
الإعلان العالمي لحقوق الإنسان صدر في 1948 لتحديد المبادئ العامة التي وافقت عليها الأغلبية الساحقة للدول الأعضاء للأمم المتحدة بعيد الحرب العالمية الثانية. والإعلان العالمي حاول عدم التدخل في تلك المفاهيم المختلف عليها وذلك للتوفيق بين الدول واطروحاتها المختلفة. ولذلك فإن الإعلان العالمي هو ميثاق سياسي بالأساس وليس طرحا فكريا محضا.
والقول بأنه سياسي بالأساس، يعني أن كثير من الاختلافات الفكرية أزيحت جانبا لكي لا يتعطل التوقيع على الإعلان. ولهذا فإن العهود والمواثيق الدولية التفصيلية تم إعدادها لاحقا لتوضيح الحقوق وما ترتب عليها.
العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية اعتمد وعرض للتوقيع والتصديق والانضمام بقرار من الجمعية بقرار من الجمعية العامة للأمم المتحدة في 16 كانون بقرار من الجمعية العامة للأمم المتحدة في 16 كانون الأول (ديسمبر) 1966، وبدأ تنفيذه في 23 آذار (مارس) 1976 (يعد عشر سنوات). ويركز هذا العهد على الحقوق الفردية أساسا ويلقى دعما كبيرا من الدول الغربية التي تؤمن بالحرية الفردية قبل كل شيء. كما أن العهد يحتوي على برتوكول اختياري يسمح لاحدى لجان الأمم المتحدة لمتابعة الدول ومراقبة تنفيذها لبنود العهد إضافة لذلك فقد تم صياغة بروتوكول ثان وعرض على الدول للتوقيع عليه لإحاقة بالعهد الخاص بالحقوق المدنية وهو يهدف بالأساس لإلغاء عقوبة الإعدام.
العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية صدر في نفس الفترة ودخل حيز التنفيذ في 3 كانون الثاني (يناير) 1976 ويهتم بالحقوق الجماعية بالأساس، وهذا العهد كان يلقى دعما من الدول الشرقية أكثر من الدول الغربية, ونظراً الاتساع النفوذ الأوروبي والأميركي (الغربي) فإن العهد الخاص بالحقوق المدنية والسياسية أنشئت له آليات أكثر تطورا لمتابعة تنفيذ البنود الخاصة بالحقوق الفردية. غير أن مجموعة الدول الشرقية استطاعت الحصول على "إعلان حول التنمية" صدر بأكثرية الجمعية العامة في 1986 واعترف بحق التنمية في مؤتمر فيينا 1993 كحق أساس. وفي العام 1997 صوتت الجمعية العامة على اعتبارها هذا الحق مكملا ومساويا للحقوق المتضمنة في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والعهدين الدوليين، وذلك يعتبر جزءا من مجموعة التشريعات المكونة "للقانون الدولي لحقوق الإنسان".
القانون الدولي لحقوق الإنسان، إذن يضم الإعلان العالمي والعهدين الدوليين والبروتوكولات الملحقة، بالإضافة للاتفاقيات التفصيلية الأخرى التي أنشئت بسبب أهميتها. ومن هذه الاتفاقيات: اتفاقية مناهضة التعذيب، واتفاقية حماية الطفل، واتفاقية منع التمييز ضد المرأة، واتفاقية منع التمييز العنصري.
السعي الحثيث لمنظمات حقوق الإنسان والناشطون الدوليين يتركز حاليا على دعوة جميع الدول الأعضاء للتوقيع على جميع هذه العهود والبروتوكولات والاتفاقيات. والتوقيع عادة ينقسم إلى قسمين: توقيع يلزم الدولة العضو على الالتزام بصورة ذاتية على هذه المواثيق. أما التوقيع الثاني فينص على سماح تلك الدولة العضو لإحدى لجان الأمم المتحدة لمتابعة ومراقبة ما تقوم به تلك الدولة بشأن تنفيذ البنود الموقع عليها. وعلى هذا الأساس فإن هناك دولا توقع على العهد ولكن لا توقع على البتروكول، أو توقع على اتفاقية منع التعذيب ولكنها لا توقع على المادة العشرين من تلك الاتفاقية، لأن تلك المادة تسمح لإحدى لجان الأمم المتحدة بمراقبة ما تقوم به تلك الدولة.
وهناك دول تمتنع عن التوقيع على أية معاهدة أو على مادة من المواد بحجة معارضة ذلك البند لثقافة الدولة المعنية. وهذا ما يطرحه البعض حول الخصوصية والعالمية.
الخصوصية والعالمية
لاشك أن هناك خصوصية معينة في بعض الحالات، وهي أمور ممكن الاعتراف بها دون جدال. مثلا، اتفاقية حقوق الطفل تتعارض مع الدين الإسلامي بشأن موضوع التبني (تبني الأطفال). وفي هذا الأمر فإن الدول الإسلامية تتحفظ على إحدى المواد الواردة بهذا الشأن، وهو أمر ليس عليه غبار ولا يمثل إشكالية حقيقة.
غير أن الموضوع الأهم هو ادعاء بعض الدول بأن مواطنها لهم حقوق "أقل" من الآخرين لأسباب ثقافية. فادعاء أي دولة بأن الحقوق المدنية (المساواة أمام القانون) والمشاركة في الحياة السياسية العامة (انتخابات برلمانية وغيرها) أمور تتعارض مع ثقافة هذا البلد أو ذاك، يعتبر أمراً مريبا للغاية. هناك أيضا بعض الدول ممن يقول ممثلوها أن لديهم واجبات أخرى أهم من توفير الحقوق الفردية كحق التعبير عن الرأي، مثل الغذاء وحق التنمية البشرية. وهذا الادعاء باطل من الأساس لأن الحقوق الأساسية متداخلة وتدعم بعضها الآخر، ولا توجد دولة تطورت من خلال إلغاء أي من هذه الحقوق. بل على العكس فإن 20 في المئة من دول العالم هي الأكثر تطوراً اقتصاديا لأنها بالأساس تضمن جميع الحقوق لمواطنيها. وعلى العكس من ذلك الدول التي تحرم مواطنيها من الحقوق السياسية، فإنها تهدر اقتصادياتها في الجوانب الأمنية والعسكرية وتحرم مجتمعها من التنعم بالحقوق الفردية والجماعية.
والغريب أن عددا من الدول الإسلامية تتذرع بهذا الأمر رغم وزراء خارجية منظمة المؤتمر الإسلامي وقعوا على إعلان القاهرة عن حقوق الإنسان في الإسلام العام 1990، ودعموا الحقوق الأساسية الواردة في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان من وجهة نظر إسلامية.
العالمية في حقوق الإنسان تؤمن بان كل شيء يمس كرامة الإنسان فأنه شأن يخص جميع بني البشر ولا يمكن لدولة أن تتذرع تحت اسم "سيادة الدولة" بممارسة الانتهاكات ضد مواطنيها.
وقد ضمن هذا المفهوم في اتفاقية هلنسكي لعام 1976 بين الدول الأوروبية، حيث نصت اتفاقية منظمة المن والتعاون الأوروبي بأن أي شأن يخص حقوق الإنسان فإنه يحق للدول الأخرى أن "تتدخل" بصورة قانونية. وتم أعطاء صلاحية للمحكمة الأوروبية بالنظر في القضايا التي يرفعها مواطنو الدول الأوروبية ضد حكوماتهم واعتبرت القرارات الصادرة من المحكمة نافذة على الدول المعنية.
ولهذا فإن حركة حقوق الإنسان تدعم مشروع تكوين محكمة الجنايات الدولية.
محكمة الجنايات الدولية
انعقد مؤتمر في روما في تموز (يوليو) 1998 لدراسة تكوين محكمة دولية مستقلة وغير منحازة. وقدمت الطروحات بهذا الشأن وهناك الآن إرادة عامة ودولية لتكوين هذه المحكمة. والاختلاف هو حول شكلها ومدى صلاحياتها ومستلزماتها. وعند التطرق للجرائم المتعلقة بحقوق الإنسان اقترحت بعض الدول إدراج الاعتقال التعسفي، النفي والترحيل، الاختفاء، أخذ الرهائن، التمييز العنصري والديني والمذهبي، والتمييز ضد المرأة أو الرجل والأطفال، دون أسباب مقبولة (مثل اعتقال سجناء الرأي)، والتعذيب والإهانة وغيرها من الإجراءات التي تمارسها العديد من الدول بصورة يومية ضد مواطنيها. وهناك اختلاف حول متى يتم قبول مثل هذه الدعاوى. فهل أن أي شيء تقوم به أي دولة ضد أي مواطن يمكن النظر فيه. أم النظر في أمر ما يتطلب أثبات أن تلك الدولة تقوم بهذا الأمر بصورة منهجية مستمرة ومنظمة كنمط عام للتعامل مع المواطنين؟ الأمر الآخر هو ما هي علاقة مجلس الأمن الدولي مع هذه المحكمة؟ فالدول الأعضاء الدائمة في مجلس الأمن تريد السيطرة على هذه المحكمة لأن مثل هذه المحكمة قد تفتح الطريق لتحدي احتكار القرارات الدولية الخطيرة التي تتعارض مع مصالح الدول الخمس، لاسيما الولايات المتحدة. وهذا يفسر لماذا كانت الولايات المتحدة متحمسة جدا للمحكمة ولكنها تراجعت عن حماسها مؤخرا. ولازال العمل جاريا في أروقة الأمم المتحدة للخروج بصيغة مقبولة من أكثرية للتوقيع عليها وإخراجها لحيز الوجود، ربما قبل العام 2000.
المواطن العالمي
يوما بعد يوم تصبح حقوق الإنسان قضية عالمية، ترفع أسمها مؤسسات دولية، وفي المستقبل ربما محكمة دولية وقانون دولي معترف به بصورة كاملة وقائم على الأسس الواردة في الإعلان العالمي والعهدين الدوليين والاتفاقيات الدولية الأخرى. يوما بعد يوم تجد كثير من الدول التي تنتهك حقوق مواطنيها أن الدائرة تضيق عليها وأن الإرادة الدولية تتجه لصيانة حقوق المواطنين بغض النظر عن طبيعة تلك الدولة وحدودها الإقليمية. يوما بعد يوم، تجد الدولة القومية صلاحياتها المطلقة التي سمحت لها أن تنتهك حقوق مواطنيها بحجة "السيادة الوطنية" تتقلص. يوما بعد يوم يتجه إنسان الأرض لناصرة بعضه الآخر ضد كل أنواع الظلم. نعم هناك الاستغلال السياسي لهذه الطروحات، وهناك اللف والدوران، وهناك العديد من القضايا الفكرية العالقة، إلا أن الاتجاه العالمي يدفع بأن السلم العالمي يتطلب احترام حقوق المواطن الأساسية، بغض النظر عن انتمائه ولونه وجنسه وبلده.
العدد 1 - الجمعة 06 سبتمبر 2002م الموافق 28 جمادى الآخرة 1423هـ