منذ أن خلق الله آدم عليه السلام والإنسان يسعى لتحقيق امرين يبدو إنهما متعاكسين.
يريد الإنسان الاستقرار والأمن والاطمئنان، وفي الوقت ذاته فانه متعطش للإبداع والتغيير والتقدم.
إذا كان الإنسان يريد أن يتقدم إلى الأمام فلا بد أن يتأثر أمنه واستقراره واطمئنانه. فلو ركز الإنسان على المحافظة على وضعه الحالي فإنه لم يتقدم إلى الأمام وسيرى أخاه الإنسان قد خطأ خطوات إلى الأمام تحقق له أمنا وطمئنانا على مستوى آخر، غير أن هذا الأمن والاستقرار خاضع لظروف ومعطيات معينة تتغير مع الأزمنة والأمكنة. وهذه الأزمنة والأمكنة دائمة التعرض للظروف المحيطة بها التي نضغط عليها باتجاه التغيير.
التغيير أصبح هو الثابت وهو المحرك. هو الثابت لان الإنسان لا يستطيع الإبقاء على الظرف القديم (بزمانه أو مكانة أو بكليمهما)، وبالتالي فإن التغيير مستمر وثابت في اسمراره. التغيير هو المحرك أيضا لان حضارة الإنسان لم تتحقق ولم تتطور (أو تتأخر، بحسب نظرة الإنسان الفكرية والمادية) إلا بسبب عامل التغيير. وهذا العامل الشأن.
وفي جميع المجتمعات تتوزع القوى الاجتماعية في توجهاتها إلى مجموعات محافظة تقول بأن المجد الذي تحقق في الماضي (أو المتحقق الآن) لا يمكن الحفاظ عليه أو استعادته إلا بالمحافظة على العادات والتقاليد والمبادئ والسلوكيات والتصورات الحالية أو القديمة.
المجموعات الإصلاحية تقول أن إبقاء الأمور على ما هي عليه سيؤدي بالمجتمع للتأخر أو لفشل أو الانهيار إذا لم تؤخذ بعين الاعتبار التطورات الإنسانية في مجالات الفكر والمدنية. وترى هذه المجموعات إمكانية العمل على إصلاح ما هو موجود لتحقيق التطور التدريجي دون الإخلال كثيرا بنزعة الإنسان للأمن والاستقرار والطمأنينة. أما المجموعات الثورية فترى أن الوضع لا يمكن تحمله لإنه لا يحقق للإنسان طمأنينة. أو سعادة ولابد من قلب الأوضاع لتحقيق الأمن والتقدم الإنساني الأفضل.
هذه النظرة المبسطة للتوجهات ليست واضحة على أرض الواقع حاكمة أو غير حاكمة تحتوي على التوجهات الثلاثة عندما تتنوع القضايا وتتداخل دينيا وفكريا وماديا.
المجموعات ذاتها قد تكون إصلاحية أو ثورية داخل المجتمع بينما تكون محافظة داخل المجموعة. والعكس كذلك صحيح، فقد تكون المجموعة محافظة في المجتمع وتواجه هذه المجموعة حالة ثورية انقلابية داخلية دون أن يؤثر ذلك دورها المحافظ في المجتمع. (الحديث عن التأثير أمر نسبي أيضا، إذ لا يوجد حدث صغير أو كبير الا وله معين على مستوى المستويات). بعض المجموعات الداعية لأحداث تغييرات نوعية قد تنسى وضعها الداخلي الذي يبقى على تصورات كانت متقدمة في الماضي ولكن مع تقدم الزمن أصبح المجتمع المستهدف تغييره أكثر تطورا.
هذا التداخل المعقد أصبح زاهرة ملازمة لعصرنا المعقد في تطوره ولعالمنا الذي يمر في مرحلة تاريخية سريعة التغيير. السرعة التي يمر فيها عصرنا خاطفة ولهذا يقول البعض انك إذ كنت تسعى لمواكبة سرعة التغيير فإنك تخوض معركة الأمس، وعليك أن تسعى لمواكبة "عجلة" التغيير. والفرق بين السرعة والعجلة، هي أن الأخيرة تعبير عن معدل تصاعد السرعة، أي أن السرعة ليست ثابتة. وهذا يعني أن التغيير حقيقة ثابتة وملازمة لكن سرعة التغيير غير ثابتة وإنما متصاعدة بشكل غير طولي. والتعقيد يحصل لان "عجلة" التغيير تؤثر على جوانب عديدة في حيتنا في الوقت ذاته.
أمام هذا التعقيد "والتعجيل في السرعة" يفشل كثير من أساليب التخطيط الاستراتيجي التي تعتقد على معلومات ومعادلات موجودة حاليا. فالأساليب الكلاسيكية للتخطيط الاستراتيجي تعتمد على مخزون من المعلومات والمعادلات المستحصلة من الخبرة المتوفرة لدى الإنسان. وهذه المعلومات والمعادلات يتم تمديدها طوليا (ربط زمن اليوم بزمن الغد) هذه الأساليب غير صالحة وانتهى دورها قبل عقدين أو ثلاثة ومن يحاول أن يعتمد عليها لن يفلح في مواكبة التغيير كما انه لن يفلح في تعطيل التغيير. ولهذا فإن مكفري الإستراتيجية بدأوا يعتمدون على أساليب أخرى، منها الاعتماد على علماء من جميع التخصصات يحاولون استخدام قدراتهم الذهنية لتصور ما يمكن أن يحدث خلال الخمسين عاما القادمة مثلا، واستخدام ذلك التصور لتحديد نهج اليوم. بمعنى آخر فإن علينا تكوين صورة تقريبية لما ستؤول إليه الأوضاع بعد فترة زمنية من اليوم ومن ثم إعادة ترتيباتنا الحالية للصعود إلى ذلك المستوى المنظور عندما يحدث.
عجلة التغيير لا تزعج المصلحين الساعين لمجتمع أكثر إنسانية وأكثر كرامة، ولكنها بالتأكيد تزعج أولئك الذين استحوذوا على مقدرات الأمة. عجلة التغيير تزعجهم لان المستقبل ليس في أيديهم ويخافون شروق شمس الغد التي تعلن انتهاء الأمس. أنهم يأملون إيقاف عجلة التغيير والرجوع إلى الوراء ويعادون دعوات الإصلاح السلمي أملا في الإبقاء على الماضي
العدد 1 - الجمعة 06 سبتمبر 2002م الموافق 28 جمادى الآخرة 1423هـ