جون ميجور رئيس وزراء بريطانيا السابق عاد إلى الأضواء مؤخرا بعد أن كاد ينساه الشعب البريطاني. وعودته مؤخرا سببها إنهاء فترة صمته في البرلمان حول العديد من القضايا. إضافة إلى ذلك فقد نشرت الصحافة الشعبية تقارير تقول إنه أصبح مليونيرا بعد إزاحته من رئاسة الوزراء وذلك لسببين: الأول، المال الذي ستدفعه له دار النشر التي ستنشر مذكراته، والثاني قبوله وظيفة (لمدة يومين في الأسبوع) للعمل في شركة أميركية متخصصة في شراء الشركات التي تبيعها الحكومات ضمن برامج الخصخصة التي تجتاح العالم منذ الثمانينات. وسوف يخصص جون ميجور في مراقبة الشركات الحكومية الأوروبية الشرقية التي سيتم بيعها. وبما انه كان يرأس الحكومة البريطانية وكان وزيرا للخارجية ووزيرا للمالية قبل ذلك، فإن لديه إطلاع شامل بالبرنامج الحكومي الأوروبي. وسوف تجازيه الشركة الأميركية نصف مليون جنيه سنوياـ كما يدعي البعض.
أما الشركة الأميركية فلديها شخصيات أخرى مثل وزير الخارجية الأميركي السابق جيمس بيكر ووزير الدفع الأميركي السابق ديك تشيني، ولذا فإن هذه الشركة قائمة على شخصيات رئيسية من الأحزاب التي كانت تحكم في أميركا وبريطانيا.
وهي بالتالي "استفادة" شخصية من العمل السياسي العام.
جون ميجور، جاء من عائلة متواضعة، ولم يستطع دخول الجامعة، وكافح كثيرا في حياته إلى أن تسلم مناصب سياسية عالية أوصلته إلى رئاسة الوزراء. غير انه عندما وصل إلى رئاسة الحكومة تورط كثيرا بالظلال الثقيلة لمارغريت ثاتشر التي فقت شعبيتها في المجتمع البريطاني، ولكنها كانت القائدة الوحيدة المحبوبة من قبل جماهير حزبها والجناح اليميني داخل الحزب، فسرعان ما يقرر جون ميجور شيئا أو يصرح بشيء آخر هي بالتصريح والتلميح المضاد، مما افقد ميجور الكثير من صلاحياته وهز من شخصيته.
الجناح اليمني في حزب المحافظين كان يغار من جون ميجور القادم مع عائلة متواضعة والذي لم يدخل أي جامعة (دع عنك كامبردح أو اكسفورد) ومع ذلك أصبح يديرهم ويدير البلاد.
وقبل عام من مغادرته الحكومة هاجمت ثاتشر أحدى الأفكار التي طرحها جون ميجور ودعا فيها إلى تعزيز المجتمع الواحد. فثاتشر لا تؤمن بسياسات تعزيز المجتمع، والشيء الوحيد الذي يحتاج لتعزيز هو اقتصاد السوق الذي يعزز كل شيء آخر عندما يتطور ويصل إلى درجات عالية، حسب رأيها.
وحتى سقوط ميجور، قيل أن ثاتشر كانت تتمناه لكي تتخلص هي وجناحها اليميني منه. ورئيس حزب المحافظين الحالي، وليام هيغ، هو من تلامذة ثاتشر، وكانت هي قد وقفت مع أثناء الانتخابات الداخلية لحزب المحافظين.
غير أن جون ميجور يستحق الذكر لبرنامجه الذي طبقه أثناء فترة حكمه، وذلك برنامج "ميثاق المواطن" (Citizen's Charter)
استهدف تحسين أداء الخدمات المدنية العامة للمواطنين. وقام دون ميجور بإصدار القرارات لكل الخدمات العامة بان تنشر "مؤشرات" تثبت رضا المواطن عنها. فجميع المدارس والمستشفيات والبلديات، الشرطة، والمحاكم، والسجون، والبريد، ومكاتب الضرائب، وخدمات الإعانات الاجتماعية، والمواصلات والطرق، والوزارات، وكل الشركات التي باعتها الحكومة للقطاع الخاص (الماء، الهاتف، الكهرباء، الخ) يجب عليها إن تنشر مؤشرات بصورة دورية لإثبات أن المواطن راض عن تلك الخدمات.
وطرح ميجور ستة مبادئ لميثاق المواطن. المبدأ الأول هو نشر ومراجعة ومراقبة النظم والضوابط التي تنظم الخدمات وأسلوب إدارتها. وعلى جميع الدوائر أن تنشر جميع المؤشرات الدالة على حسن أدائها. المبدأ الثاني: الانفتاح المعلوماتي على المواطن من خلال الشرح المبسط والموفر بصورة مناسبة. والمعلومات يجب أن تشرح للمواطن كيف يتم استخدام الضرائب في تسيير تلك الخدمة. المبدأ الثالث: على كل دائرة أن تعطي الفرصة (متى كان ذلك ممكنا) للاختيار بين عدد من الخدمات. وعلى الدوائر أن تثبت أنها استمعت لرأي المواطن وقدمت خيارات أفضل مما سبق.
المبدأ الرابع: أن تتعامل الدوائر بأخلاق عالية وأدب رفيع مع المواطن، وان الخدمات توفر للجميع بطريقة متساوية.
المبدأ الخامس: إذا حدث خلل في الخدمة، فان على الدائرة أن تعتذر بصورة سريعة للمواطن وان تعطيه شرحا مفصلا عن أسباب الخلل وعن الإجراءات الفورية المتخذة لالزامة ذلك الخلل.
المبدأ السادس: على كل دائرة أن تثبت أن خدماتها تستحق ما يدفعه المواطن من ضرائب، بمعنى آخر عليها أن تثبت بأن حسابات السوق (الخسارة والربح) قد تم تطبيقها أثناء تقديم الخدمة كما لو أن المواطن اشترى الخدمة من السوق الحرة.
هذا الانجاز يستحق الاحترام ويستحق جون ميجور التقديم لما قام به. غير إن "ميثاق المواطن" يعتبر "إصلاح وتطوير إداري" لبريطانيا. وهذا الإصلاح الإداري يتناسب مع ثقافة بريطانيا التقليدية المرتكزة على حسن الإدارة. أما حكومة حزب العمال الحالية فإنها نفسها لميثاق أخر، وهو ميثاق "صلاح وتطوير سياسي" لبريطانيا. ولهذا شرعت حاليا في إصلاح مجلس اللوردات، وتستعد لإجراء إصلاحات لأنظمة الانتخابات وتستعد لاستحداث منصب "عمدة لندن" لرعاية مصالح عاصمة الضباب.
إذا كانت بريطانيا "العظمى" تحتاج لكل هذه الإصلاحات الإدارية والسياسية، لمواكبة المستقبل، كما يقول سياسيوها، فكيف ببلداننا التي لم تعرف الإصلاح، لغة أو عملا؟
الإصلاح المستمر هو الذي منع حدوث ثورة في بريطانيا لأربعة قرون مضت، والإصلاح هو الذي يستطيع أن يمنع الثورات في بلداننا، وليس العسكر أوالمخابرات.
العدد 1 - الجمعة 06 سبتمبر 2002م الموافق 28 جمادى الآخرة 1423هـ