ينقل الأخوة الفلسطينيون نكتة سياسية تقول ما يلي: أن مدرسا سال التلاميذ: "ما هو الشيء المدور قشرته خضراء ومحتواه أحمد ويحتوي على حب اسود؟" أجاب أحد التلاميذ "هذا بطيخ". المدرس سأله ماذا يعمل أبوك؟ قال التلميذ: "أبي طبيب". فعلق المدرس: "انظروا كيف يفهم أبناء الأطباء بسرعة". ثم سأل اصفر ومحتواه اصفر ويحتوي على حب مماثل في اللون؟" أجاب تلميذ آخر: "هذا شمام". المدرس سأله عن مهنة أبيه، فقال التلميذ أن أباه يعمل مهندسا. المدرس من جانبه قال: "انظروا كيف يفهم أبناء المهندسين وكيف يستطيعون الإجابة بسرعة". ثم سأل المدرس سؤالا ثالثا: "ما هو الشيء الصغير الذي يوصوص ويطير؟" وهنا تبرع احد التلاميذ بالإجابة قائلا: "أن هذا فيل". فلم يتحمل المدرس هذه الإجابة وبدأ بالشتم قائلا:"أقول لك شيء صغير ويوصوص ويطير وتقول لي فيل! ماذا يعمل أبوك؟" فأجاب التلميذ: "أبي يعمل في الأمن الوقائي". وهنا تدارك المدرس نفسه بسرعة واسترجع ما قاله وبدأ يشرح ويبرر أن "الفيل بإمكانه أن يوصوص ويطير"!
الحديث عن طبيعة الأنظمة العربية وممارستها في بلداننا متشابهة إلى حد كبير. فكثير من الفلسطينيين يعيشون الآن تحت ظل سلطة وطنية جاءت بعد نصف قرن من العذاب والتشريد. هذه السلطة وجدت في ظروف مريرة وتحت شروط كثيرة فرضتها العملية السياسية الراهنة. السلطة الفلسطينية مطالبة "بإثبات جدارتها" كسلطة عربية متفوقة في الجانب الأمني، الذي تفوق فيه العرب على غيرهم من الأمم. المناضل الفلسطيني كان يدخل المعتقلات الاسرائيلية ويتحمل التعذيب ثم يخرج فيناضل ثم يدخل المعتقلات، وهكذا دون تراجع.
آما الآن فإن المناضل الفلسطيني يعتقل للتحقيق لمدة يوم واحد، وإذا أفرج عنه فإنه يخرج وقد "تأدب" كثيرا. يخرج وهو لا يعلم ماذا يقول. فهل يشتكي على أخيه "المناضل" الذي استلم وظيفة التحقيق على الأسلوب العربي؟ هل أن نشاطه السابق يسترجعه الآن ضد أخيه الفلسطيني؟ هل أن فضح ما يجري يعتبر خيانة لقضيته؟ هل أن حقوق الإنسان عندما ينتهكها الصهيوني هي ذاتها حقوقه التي ينتهكها أخوه الفلسطيني "المناضل سابقا"؟ السلطة الفلسطينية بلا شك حققت أمنا اجتماعيا ورفعت العلم الفلسطيني خافقا فوق جزء من فلسطين. ولكنها أيضا سارعت بتأسيس "محكمة أمن دولة" وأجهزة أمن ومخابرات وملأت السجون بالناشطين الفلسطينيين، ضابط الاستخبارات الآن هو نفسه الذي كان في "سجون العدو" ويعرف الكثير عن أخيه الذي اعتقله بعد إقامة هذه الأجهزة الرهيبة التابعة للسلطة الفلسطينية.
هل يا ترى أن مصيرنا محتوم بأسلوب واحد ونمط واحد في التعامل؟ وهل صحيح أن التعامل بغير أسلوب القمع لا ينفع مع بعضنا البعض؟ هل أن الحديث عن "21" حالة وفاة في السجون الفلسطينية (تأكد أن "11" حالة منها موت تحت التعذيب) هل هذا الحديث يعتبر خيانة للقضية الفلسطينية؟ هل أن نشر هذه الحالات ومحاسبة المسئولين عنها يعتبر تشهيرا وقذفا وجريمة بحث الوطن؟ أم هل أن الحديث عنها يلزم أن يكون بنفس الحماس كما لو أن ضابط الاحتلال هو الذي مارس هذا العمل؟ هل أن لنا "خصوصية" في هذا المجال؟ هل أن خصوصيتنا هي أن يستمر وضعنا هكذا؟ هل صحيح أن "خصوصية" مجتمعنا هي ان تمارس حكوماتنا هذا النهج؟
أنا مع القائلين بعدم تسييس حقوق الإنسان وعدم استخدام ملف حقوق الإنسان من اجل أغراض سياسية. ولكني أيضا مع القائلين بان السكون عن الظلم مهما كان مصدره هو "تسييس" آخر لحقوق الإنسان. فالمعذب معذب سواء كان إسرائيليا أو فلسطينيا والضحية والمظلوم مظلوم مهما كان جنسه ولونه ومبدأه. الإنسان إنسان ولا يمكن إهانته وتعذيبه تحت أي عذر كان وتحت أي مبرر كان. وقد ورد عن الإمام علي بن أبي طالب (ع) قوله: "إياكم والمثلة ولو بالكلب العقور". فماذا كان ديننا يحرم تعذيب الكلب فما بالنا بالإنسان. أن الجهاد الأكبر هو الجهاد الداخلي، جهاد النفس، والجهاد الأصغر هو مواجهة العدو. هذا ما قاله نبينا محمد (ص). والجهاد الأكبر هو تطهير الداخل من الشوائب والنواقص. وهذا يعني أن مجتمعاتنا بحاجة أن تزيل الشوائب من داخلها وتبني أسس الثقة والتعاون وتعزيز السلم الأهلي فيما بينها. نعم نحن بحاجة لمنطلق جديد في مجتمعاتنا يعزز مفهوم السلم الأهلي ومفهوم العزة والكرامة. يلزم علينا أن نحترم أنفسنا وان نحترم بعضنا الآخر لكي يحترمنا الآخرون. أن الحديث عن صيانة حقوق الإنسان لا يختص بمرحلة ما أو بجهة ما أنها مسئولياتنا جميعا. فالمجتمعات المتقدمة هي تلك التي تواجه حالات إهانة الإنسان في داخل مجتمعاتنا، ولم نسمع أن شخصا اتهم بالخيانة الوطنية أو التشهير السياسي لأنه فضح سوء معاملة سجين أو تعذيب أو انتهاك لحقوق الإنسان. بل على العكس يعتبر السماح للمدافعين عن حقوق المواطنين بصورة علنية دليلا على قوة النظام وعلى قوة النسج الاجتماعي. ليس لنا "خصوصية" تقول أن مصيرنا محتوم بالقمع وأساليب الإهانة، ومن يقول ذلك فإنما يختصر عقله ويحاول اختصار عقل الآخرين.
العدد 1 - الجمعة 06 سبتمبر 2002م الموافق 28 جمادى الآخرة 1423هـ