في إحدى السفرات بالطائرة في العام الماضي بين عاصمتين أوروبيين حدث أن سقطت سيدة أميركية في الخمسينات من عمرها، وبما أن مقعد السيدة كان خلفنا فكان بإمكاننا أن نشاهد كيف هرع عدد من المضيفين لمساعدة السيدة التي سقطت. بعد دقائق من سقوطها جاء صوت الطيار معلنا عن وجود مريضة على متن الطائرة وطالبا من أي من لمسافرين إذا كان طبيبا أن يعرف نفسه لطاقم الطائرة. التفت لصاحبي الذي كان جالسا جنبي قائلا: "أراهنك بان الطبيب الذي سيتقدم أما أن يكون هنديا أو عراقيا". بعد دقائق من حديثنا هذا وإذا بأحد إخواننا الهنود يتقدمه أحد المضيفين يتجهان إلى المريضة لمساعدتها. الطبيب (الهندي الشكل) كان ماسكا ماء ولم يكن لديه معدات طبية سوى أصابع يديه التي استخدمها لقياس النبض وللقيام ببعض الإجراءات الطبية الأولية. السيدة الأميركية استيقضت بعد فترة لتستمع لتطمينات الطبيب بأنها ستكون على ما يرام وانه سوف يزورها بين فترة وأخرى حتى وصول الطائرة حيث ينتظرها الإسعاف في المطار.
الكفاءات القادمة من جنوب العالم (آسيا وإفريقيا) متواجدة في كثير من المجالات المتطورة من الطب والهندسة والبحث العلمي والجامعات. وكل عدة سنوات تشهد عدد من بلداننا اضطرابا سياسيا متهاجر عقولها نازحة إلى اي مكان في العالم تجد فيه أمنا وكرامة. ومنذ مطلع الثمانينات، مثلا، امتلأت الجامعات البريطانية بأفراد الجالية العراقية الذين هربوا من جحيم الحرب والسياسة الدامية في بلدهم. وانتشر أخواننا العراقيون في جميع التخصصات ودرسوا بجد واجتهاد وانتهوا من الدراسة وبدأوا يتخصصون كل في مجاله. وقس على نفس المقياس جاليات أخرى في الولايات المتحدة وأوروبا انتهى بها الاضطهاد السياسي في وطنها الأم للبقاء في بلاد الغرب والغربة. الغربيون، وبصورة أساسية لا ينزعجون من هجرة هذه الأنواع. فمعظم هؤلاء لم يكلف الدولة أثناء تحصيلهم العلمي، بل على العكس جاءوا بأموالهم واستفادات الجامعات من أموالهم ومن تحصيلهم العلمي. قم ان هؤلاء اضطروا للبقاء ولم يكن أمامهم سوى أثبات جدارتهم في مجالات تخصصهم.
وبعكس ما يتوقعه البعض من أن هؤلاء الأشخاص الذين هجروا بسبب مواقفهم السياسية، أو بسبب تدهور الحالة السياسية في بلدانهم، فإنهم عندما يمارسون مهنتهم في الغرب فإنهم ابعد ما يكونون عن السياسة.
كما أن هذه العقول التي تحمل الشهادات والأسماء الكبيرة ليس لها دور اجتماعي داخل المجتمعات الأوروبية والأميركية، وفي لعادة لا يدخلون الحياة السياسية (كالبرلمان أو الأحزاب أو المجالس البلدية). هذه الكفاءات على درجة عالية من التخصص والقدرة على الإبداع وهي تعر ف أن سر وصولها لمناصبها وسر استمرارها في تلك المناصب هو استمرار إبداعها في مجال تخصصها. غير أن الأوروبيين والاميركيين يقفون موقفا آخر من الأشخاص الذين يهاجرون من بلادهم بحثا عن الرزق وهربا من الجوع والضائقة الاقتصادية. وهؤلاء تعتبرهم السلطات الغربية "بطون مهاجرة" تأخذ أكثر مما تعطي وتثقل ميزانية الدولة المتوفرة للدعم الاجتماعي.
غير ان فشل الأنظمة السياسية في بلدان الجنوب في توفير لقمة العيش وفي توفير قدر من الحرية والكرامة لا يرجع فقط لأسباب محلية وانما أيضا لهيمنة بعض الدول الغربية على سياسات البلدان الاخرى. وكلما ازداد الوضع سواءا في البلدان الأخرى كلما اضطرت العقول والبطون للهجرة بحثا عن الأمن وعن لقمة العيش. ولهذا السبب فإن هناك من السياسيين الواعين في أوروبا ممن يدعون لمساعدة الدول الأخرى ليس من خلال تصدير أسلحة وانما من خلال الانفتاح السياسي والتطوير الاقتصادي الذي يضمن مستقبلا مستقرا قائما على استقرار "العقول" و"البطون" في بلدانها. على أن العقول والبطون التي هاجرت إلى بلاد الغربة أصبحت الآن جزءا لا يتجزأ من المجتمعات التي هاجرت اليها. وكثير من هذه الدول سوف تعمل الكثير لمنع عودة العقول إلى مواطنها.
الملاحظ هو أن المجموعات المهاجرة لازالت تسرح في عالم آخر غير العالم الذي تعيش فيه. فالجيل الذي ولد في بلاد الغربة لا يرتبط كثيرا بتلك البلدان التي قدم منها الأب والأم. والجيل الجديد أمامه تحديات كثيرة، أما أن ينصهر في المجتمع الذي ولد فيه، أو أن يعيش في العالم الذي يعشعش في مخيلة أبويه. كثير من الجاليات التي قدمت في الستينات والسبعينات (كالجالية الهندية والباكستانية) بدأت تعي دورها ودخل ممثلوها المجالس البلدية وحتى البرلمان. أما الجاليات التي قدمت من البلاد العربية فهي لازالت بعيدة عن دائرة التأثير السياسي.
وفي بريطانيا لا يوجد ولا عضو واحد في أي من المجالس المحلية التي يفترض سهولة الوصول إليها مع وجود أعداد كبيرة من هذه الجالية أو تلك. العقل المهاجر صامت وبعيد عن السياسة في المجتمعات التي هاجر اليه رغم كفاءته.
والعقل المهاجر يتخوف من السياسة بسبب الرواسب التي معه، ويحصر مشاركته السياسية في القضايا الهامشية داخل جاليته.
العدد 1 - الجمعة 06 سبتمبر 2002م الموافق 28 جمادى الآخرة 1423هـ