بدأت حملة مسئولين دوليين كبار ومؤسسات تخصصية تنشر التحذيرات تلو التحذيرات من "لعنة" العام 2000 التي ستحل على البشرية إذا لم يتم اخذ الاحتياطات اللازمة لتفاديها. إنها لعنة الكومبيوتر والأجهزة الكمبيوترية التي أصبحت عصب الحياة في كل مجال من المجالات.
فعندما تدق الساعة الثانية عشر من منتصف الليل من يوم 31 كانون الأول (ديسمبر) 1999 ستتعطل جميع البرامج التي تعتمد على التسلسل التاريخي. فجميع الكمبيوترات تختزن الرقمين الأخيرين فقط مثلا (97) بينما تعتبر الرقمين (19) أمرا ثابتا لا يتغير. وعندما اخترع الكومبيوتر وتطور استخدامه لاحقا في الخمسينات والستينات كان توفير رقمين في العمليات الحسابية يعتبر أمرا هاما. ولكن ما لم يحسب له مصممو البرامج أن العام ألفين سيصبح أمرا غير مفهوم. فإذا انتهي العام (99) وتحولت الأرقام إلى (صفر صفر) فإن الكومبيوتر سيفسر ان التاريخ أصبح 1900 بدلا من 2000.
هذه اللعنة إذا لم يتم تداركها فإن دائرة ضحاياها ستشمل أجهزة التحكم المصانع الكيماوية (والنووية أيضا!) والبنوك وأجهزة البيع وبطاقات الصرف الآلي والأجهزة الطبية التي تعتمد على التشغيل المستمر وأجهزة الرقابة الأمنية وأجهزة التصوير الآلي وغيرها من التجهيزات المماثلة. وجميع هذه الالكترونيات وتعتمد على جهاز صغير (أو نظام الكتروني) داخل أجهزة التحكم ينظم حساب التواريخ يوما بيوم وشهرا بشهر وسنة بسنة. ومنذ أن اكتشفت اللعنة المتوقعة في العام 1996 والإحصاءات تتصاعد من مئات المليارات من الدولارات إلى قرابة 4 تريليون دولار. وهذه الأرقام خيالية إذا عملنا أن ميزانيات أغنى الدول النفطية في منطقتنا لا تتجاوز مستوى 100 – 150 مليار دولار.
البعض يقول أنها ضجة كبيرة لا تستحق كل هذا الصراخ وأن الشركات العالمية سرعان ما ستجد الحلول وتبيعها وتجني منها الأرباح. ولكن الأهم من ذلك هي طريقة التعامل مع مثل هذه الأمور وكيف يتم التنبيه (والتهويل أن شئت) من أجل لفت الانتباه ومنع حدوث "اللعنة". فاللعنة تكتب على الذين يستغلون ولا يخبرون بالأخطار المحدقة بهم. فإذا كانت هناك أزمة قادمة بسبب خطأ فني أو سياسي أو اقتصادي أو طبيعي، لماذا تقوم السلطات المعنية بدق ناقوس الخطر للتنبيه والاستعداد؟
أسئلة ودروس كثيرة يمكن استخلاصها والاستفادة منها، إذ نلاحظ هنا كيف أن القرار الصحيح الذي اتخذ في ظروف معينة لا يصلح لظروف أخرى، بل أن البقاء عليه يعني هلاكا للمعنيين بالأمر. كما نلاحظ أن القرار الذي يتخذ أثناء التأسيس له الأثر الأكبر في تسيير شؤون الناس. وهناك الأمثلة العديدة على أمور أصبحت وكأنها هي الأمر الأساس المعتمد في الحياة ولكننا لو راجعنا بداياتها نراها استمدت قوتها بحكم تنفيذها حين تأسيس. فمثلا عندما اخترعت الآلة الكاتبة قبل أكثر من مائة عام، اعتمد أسلوب معين لتوزيع الحروف اللاتينية بأسلوب يخالف التسلسل "الالفبائي" والسبب في ذلك هي أن الأصابع "الخشبية" كانت ضخمة وثقيله وكان مستخدمو الآلة لا يستطيعون الانتظار طويلا لطباعة الحروف الواحدة تلو الأخرى. وكان هذا يسبب قام مصممو الآلة القديمة بتنظيم الحروف بصورة صعبة لكي لا يتذكر المستخدم مكان الحروف بسرعة وبالتالي لا يعطي الفرصة لاصطدام أصابع الآلة الكاتبة. وبقيت هذه التركيبة "العوجاء" مع الأيام وأصبحت هي الأساس حتى لو لم يعد هناك أصابع خشبية أو حديدية ثقيلة.
وعودا على الحذر من العالم 2000، فإن المخاطر التي تواجهنا ليست فنية بحتة، بل أنها تتعلق بالقضايا المصيرية والتوجه الاستراتيجي للأمة. وكما يبدو فإن هذه المواضيع متروكة للمصادفة ولغيرنا من الأمم والقوى المؤثرة على الساحة الدولية. أن استراتيجياتنا غير واضحة وتجاربنا فاشلة، فشلت في الماضي وستفشل في المستقبل. ومحاولة التغافل عن طرح المواضيع الحساسة لن يمنع "اللعنة" من الوقوع علينا.
واللعنة هي الاستمرار في الانزلاق إلى المؤخرة، مؤخرة العالم في جميع المجالات، ما عدا مجال واحد يبدو أننا تخصصنا وأبدعنا فيه كثيرا. ذلك هو مجال احتقار المواطن واضطهاده وإبعاده عن المشاركة الفعالة في خدمة أمته والصعود بها. أن هناك نزيفا من الثروات الخارجة من باطن الأراضي ونزيفا آخر يتمثل في نزوح الكفاءات والقدرات البشرية من مواطنيها إلى الغربة والتغرب حيث تجد الأمان والاحترام. فلو أحصينا عدد الأطباء والمهندسين والمفكرين والأخصائيين الذين نزحوا من بلادنا العربية والإسلامية إلى الغرب وأميركا لوجدنا الغرائب والعجائب، ولا توجد حدود لهجرة العقول، وأصبح مفكرونا الذين يريدون الإطلاع على ما يجري في بلادنا يسافرون إلى أميركا وأوروبا لحضور المؤتمرات والإدلاء بآرائهم ثم العودة إلى بلاد الصمت.
أن الحذر من العام 2000 ليس أمرا فنيا في بلادنا، وإنما هو أخطر من ذلك، انه أمر إنساني لا يمكن علاجه بتبديل البشر كما يتم تبديل الأجهزة الالكترونية.
العدد 1 - الجمعة 06 سبتمبر 2002م الموافق 28 جمادى الآخرة 1423هـ