لم يكن ما حدث ليلة الانتقال من المزدلفة إلى مخيمات منى لرمي الجمرات، فيما سُمّي بمشكلة قطار المشاعر، هي وحدها ما صادف الحجاج البحرينيين هذا العام؛ فقد تكررت مشاكل العام الماضي من جديد، رغم أن جميع الحملات استبشرت خيراً بأموال المارشال الخليجي كما يقال! إلا أن أم المشاكل بقيت تراوح في مكانها، وهي قضية المساحة المخصصة لكل حاج من قبل البعثة في مشعر مزدلفة التي واجهها الحجاج البحرينيون هذا العام أيضاً.
فلا يمكن بأي حال من الأحوال أن يكون كل اثنين من الحجاج في مساحة 75 سم، ولا عزاء للرجال هنا لأنهم آثروا النساء المرهقات عليهن وهن قادمات من رحلة عرفة ليأخذن حظهن من المساحة بدايةً حيث تقرر خروجهن من المشعر في منتصف الليل قبل الرجال. إلا أن ما زاد الأمر سوءاً، مع عدم وجود مسئولي البعثة عند وصول الحملات ليلاً إلى الأماكن المخصصة لها، أن كثيراً من الآسيويين وآخرين من دول شمال إفريقيا شاركوا عنوةً أهل البحرين في تلك المساحات الضيقة المخصصة لهم أساساً. وهذا في الواقع هو ما اضطر فئةً كبيرةً من الحملات إلى إخراج النساء من بعد منتصف الليل إلى منى لتوفير مساحة كافية للرجال، وهنا وقعت الواقعة، وما أدراك ما هي، حين صدمت نسوة حملات البحرين بالانتظار القاتل والاختناقات والإغماءات أمام قطار المشاعر.
وأعتقد أن ما ميّز حج هذا العام، وإن كان في جانبه السلبي عند الحجاج الكرام، هو طغيان استخدام خدمة الـ (What’s up) بأجهزة النقال على الروحانية والخشوع والتذلل لله سبحانه وتعالى عند بيته الحرام، أو في المشاعر أو حتى عند رمي الجمرات! فغالباً ما ترى عند الحاج هذا الجهاز، بوسوسة شيطانية وقتها، وهو مشغولٌ بقراءة الرسائل القصيرة والطويلة، وأخبار شتى أو إرسال رسائل أخرى. يحدث هذا وقت الدعاء والخشوع والتضرع لله المفترض فيه أن تطغى الدموع على كل موضوع، أو عند الطواف حول الكعبة أو في السعي عند البعض، أو أثناء تأدية المناسك الأخرى بين المشاعر المختلفة. إلا أن هنا جانباً إيجابياً وحيداً في طغيان هذه الخدمة عبر الجهاز النقال في الحج، وهو أنه يختصر حمل الكثير من كتب الأدعية والقرآن الكريم بكامله معك، أو إذا تاه أحدهم عن حملته.
ورغم أن من أعظم المشاريع التنظيمية التي نفذت في مواسم الحج الحديثة هو موقع الجمرات الثلاث ذي الطوابق المتعددة، حيث لم يعد الحاج يخشى بعد دخوله للرمي أن خروجه سيكون ممهوراً بكذا علامة على رأسه أو في عينيه كما يحدث سابقاً. فالوضع الآن آمنٌ جداً لمن يرمي الشيطان الأصغر والأوسط والأكبر. ولكن، يبقى وجود هذا العدد من المتاجر والمطابخ والدكاكين وغيرها في طريق الوصول للجمرات يزيد من الفوضى وضيق المكان، ما يتسبّب مرةً تلو مرة في اختناقات ومشاكل يمكن بسهولة تلافيها بإزاحة تلك المواقع الدكاكينية التي ليس لها علاقة بالرحلة الإيمانية لله تعالى. فما علاقة الجمرات وشيطانها بضرورة وجود دكاكين تجارية ومطاعم، هل غذاء الروح أهم هنا أم غذاء «الكروش»؟
ومع ذلك، تبقى الفوضى عند المسلم نفسه حتى في رميه للجمرات الإيمانية ضد أحزاب الشيطان النفسية. فالبعض يزاحم ويركل ويضرب أخاه المسلم من أجل أن يصل إلى موقع الشيطان الحجري. والبعض يلجأ للمزاح حتى في هذه المناسك الروحية، فقد شاهدت بعض الرجال من باكستان يرمون زملاءهم الواقفين لرمي الجمرات بقطع من نعال ممزقة ملقية في ساحة الجمرات وهم يضحكون، فأين هذا السلوك من حج الإسلام والسكينة والوقار المطلوبين فيه؟ وشخص آسيوي آخر كان يرمي بفضلاته القذرة في موقع الجمرات غير مبالٍ بأية نظافة أو طهارة له وللمكان.
وحين تجلس مع حملاتنا البحرينية وتقارن وأنت تعيش وترى وتسمع عن تلك الطقوس الإيمانية الحقيقية لجمع الجمرات ونوعيتها في أيام متعددة وعن أماكن جمعها كما حددها لنا الرسول الأكرم (ص)، وكيفية رميها ودعاء الرمي؛ وبين ما تشاهده عند البعض، حين يلتقط ما وقع من حصوات غيره في موقع الرمي نفسه ليعاود رميها وكأنه في عمل آلي مجرد فقط للخلاص من أحد المناسك. أو من يقتلع «طابوق الأرصفة» ليكسره إلى قطع صغيرة ويقول عنها «جمرة».
ناهيك عن المنظر المؤذي والمشوّه لمناسك الحج أمام حتى الحجاج الأوروبيين حديثي الإسلام حين تستقبلهم في موقع كل جمرة جموع «الطراروة» الأفارقة من النسوة وهن يدرّبن أطفالهن أيضاً على عملية «كسر خاطر الحجاج» بمنظرهم وأسمالهم البالية وطريقتهم في التذلل وجذب عطف الناس، وكأننا أمام أحداث فيلم «أولاد الشوارع» ليوسف وهبى. والسؤال المحيّر هو: لماذا لا يُوقف هؤلاء عن هذا العمل ويرحلون إلى ديارهم بأقصى سرعة فهم من غير سكان البلاد وليسوا بحجاج أساساً!
إلا أن أطرف ما يحدث في موقع الجمرات أن يبقى الشيطان بلا رمي حقيقي حين يقف بعض الحجاج من مسافة بعيدة جداً ويرمى حصياته السبع الصغيرة جداً على جدار الشيطان، وهو لا يعلم وصلت أم لا، أصابت شيطانه أم أصابت رؤوس الحجاج الآخرين.
وها أنت ترمي الجمرة الكبرى لتفقأ عين شيطانك الدنيوي فيذبح لك الهدي من أجل الإحلال من ثوبي الإحرام، وتحلق شعر رأسك، ولو تعلم بكل شعرة كم يثيبك المولى عز وجل لما أبقيت من شعرة على جمجمتك، وتبيت في منى لليلة أخرى وأخرى ثم تنفر منها وهي التي احتضنتك مستأنسةً بك، لا لشيء سوى أنك قد اشتقت لحضن بيت الله فهناك ستطوف سبعاً وتصلي ركعتين، ثم تسعى سبعاً ثم تطوف طواف النساء الأخير، وتصلي ركعتي هذا الطواف وتشرب من قطرات ماء زمزم الشافية وتُكبر الله وتشكره على ما أسبغ عليك من كل النعم، وما رزقك من حج بيته الحرام. وتبقى في اشتياق وأنت تسمع صوتاً من لجنتي العلاقات العامة والإعلامية، بأمر من صاحب الحملة، يردد عليك: على جميع الحجاج الاستعداد لمغادرة السكن للتوجه لمطار جدة الدولي في رحلة العودة إلى البحرين.
فهل سيكون حج العام المقبل أروع وأفضل وأكثر روحانية وإيماناً وانعتاقاً من ذنوب الدنيا وبهرجها وصخبها شوقاً لجنة عرضها السموات والأرض أُعدت للمتقين؟
إقرأ أيضا لـ "محمد حميد السلمان"العدد 3713 - الإثنين 05 نوفمبر 2012م الموافق 20 ذي الحجة 1433هـ
سعي مشكور
تقبل الله حجكم وسعيكم وفق الله الجميع لما يحب ويرضى.