العدد 3712 - الأحد 04 نوفمبر 2012م الموافق 19 ذي الحجة 1433هـ

بعض الغياب الذي نراه... بعض الحضور الغائب

جعفر الجمري jaffar.aljamri [at] alwasatnews.com

-

في الغياب كتبتُ. في الحضور هو الآخر. ويحلو لي دائماً أن أبدأ بالتساؤل: ماذا يعني أن تكون غائباً؟ ماذا يعني أن تكون حاضراً؟ ما الذي يحدّد غيابك؟ ما الذي يحدّد حضورك؟

هل للمكان والزمان معنى من دون حضورنا؟ هل يكونان في غياب هما أيضاً بعيداً عنا؟

كم من غياب هو في لبِّ ومعنى الحضور؟ كم من حضور هو في لبِّ ومعنى الغياب؟ كأنّ الحركة والفعل والدور والأثر والقيمة، كل ذلك هو المُحَدِّد لأي منهما.

لم يعد العالم اليوم بكل تحوّلاته وتأثيره وإنجازه يتعامل مع الازدحام والاكتظاظ البشري باعتباره حضوراً إلا بقيمة ما يقدّمه ذلك الازدحام والاكتظاظ من فعل ودور وأثر وقيمة. الأمم التي تكتظ باللحم البشري والهياكل ليس بالضرورة أن تسجّل حضوراً ذا مغزى وقيمة، وندرة ذلك اللحم والهياكل لا تعني النقيض من ذلك أو يكون متطابقاً معه أحياناً. قد تعني النقيض بشكل صارخ ومخجل ويدعو إلى الإعجاب والتأمل والغبطة حيناً، والحسد وتمني الزوال حيناً آخر.

لا تنسوا الكتل البشرية التي يُخترعُ حضورها وتحشيدها تبعاً للتوظيف باعتبارها ورقة إنقاذ في مرحلة تنزل استحقاقاتها وحراكها كالأجل. أولئك الذين يُساقون سوْق الشاة بتعليمات وأوامر وابتزازات وإغراءات أيضاً، يختلط في ذلك الحضور الأسود بالأبيض والأصفر ومن كل جنس ولون، ولا يمكن بأي حال من الأحوال؛ أن يُعدّ حضوراً من حيث صدق التوجّه والخيار واستيعاب أن تحضر لتؤثر وتقول كلمتك، وتملك حق أن تقرّر مصير كيف تكون، وتفاصيل تلك الكينونة كما يجب وتستحق كإنسان.

التكدّس البشري في السَعة لا يُنبئ بالتحام. التكدّس ذاك سيصبح أفراداً ووحْداناً حين تحين ساعة الاستحقاق وساعة المحْو وساعة البطش وساعة التنكيل. كل الذين كنت تحسبُهم أمانة لك ولظلك سيكونون عليك شهود زور في سبيل منجاة أو وهم منجاة، وفي سبيل فتات وفضلات موائد فيها عناوين صارخة لإهانة الإنسان وكرامته، ومثل أولئك لن يشعروا بالإهانة لأنهم من دون كرامة حين باعوا بأبخس الأثمان من اشترى قيمتهم التي توهّم، وحضورهم الذي ظن.

مثل ذلك الحضور المُتوهَّم، لا يختلف قيد أنملة عن حضور الجثث المتكدّسة للشروع في تجهيزها إلى مثواها الأخير. وكثير من الجثث تتبرّم منها الحيّزات التي تضمّها. تتبرّم منها القبور؛ تماماً كما تتبرّم حيّزات ظاهر الأرض من الجثث المتحركة وبعافية اعتباطية من دون قيمة أو هدف أو معنى أو ما يدل على الكرامة بقبولها واستعدادها لمضاعفة ما يذلّها وينال مما تبقى من كرامة لديها.

هذا العالم لن تقيم خلله وتعيده إلى رشْده الجثث. لن يعيده إلى جادّته التي يتيقن من خلالها الوصول لما يطمح ويحلم إلا الحضور الذي يؤكد أول ما يؤكد قيمة إنسانه ويعمّقها ويتمثلها ويسترْشد بها. الجثث لن تتيح له ذلك على الإطلاق. الغياب بتلك الدرجة من الاحساس به لا يملك ولن يملك ذلك.

كم من الذين هم في غيابهم المادي اليوم أكثر حضوراً من الذين تُصادفنا صورهم وتصريحاتهم وتماثيلهم ومجسّماتهم في كل ركن من أركان الأمكنة التي نرتادها؟ كم من المصلحين والمفكّرين والأدباء والشعراء والصعاليك وذوي الشرف في الموقف ممن غابوا، مازالوا حتى يومنا هذا لهم بصمة تأثير هنا، وذاكرة تتجلّى هناك، وتمثلاً واستجلاء لما قدّموا هنالك؟ هل نُعدّ غياب مثل أولئك غياباً بكل الأثر العميق والفاصل الذي يحدثونه في حيوات الناس؟

العربُ والمسلمون اليوم ثالث أكبر كتلة بشرية في العالم؛ لكنها تكاد (الكتلة) لا ترى بالعين المجرّدة. الفعل والأثر غائبان. ما يقدّمك ويفرض احترامك على العالم هو ما تُحسن وما تملك إضافته والأثر الذي يمكن أن تتركه وتخلّفه. المدنية والعالم اليوم لا يتعاملان مع الأمم والبشر باعتبارهم أرقاماً وإحصاءات. الكائنات اللبونة تتجاوز سكّان الأرض من البشر بعشرات آلاف الأضعاف؛ لكنها خلقت مسخّرة وفي خدمة سيدها الإنسان. وبعض البشر على رغم كتلهم البشرية التي لا تقاس بامتداد مهول في التناسل، مسخّرون في خدمة سيدهم المشغول بعقله وإنجازه لا بطنه وظاهره وسخافاته واستهلاكه.

حضور أي منَّا لا يمكن أن يكون تكملة عدد وسدّ فراغات. لا يمكن أن يكون حشْراً للحشْر ذاته. تشترك في ذلك الأمر معنا حتى الحيوانات في هجرتها إلى المراعي والمياه. وغياب أي منا ليس بالضرورة أن يكون غياباً يستل أحدنا من حركة تفاعله وتأثيره. مثل ذلك يمكن أن يحدث وتفصلك بينه وبينك في الزمان والمكان عشرات القرون وربما مئاتها. ما يخلّفه المرء من أثر هو حضوره الفعلي والدائم، وما يتخاذل عنه المرء في اللحظات الفاصلة والحاسمة التي تتطلب موقفاً هو الغياب ولو أحيط بأهل الأرض جميعاً.

وفي الحضور الذي يقدّمه لنا أدب التصوّف خلاصة معنى وتنكّب قيمة ووَلَه لا يذوي أو ينقطع. فيه من التوهّج ما يجعله عصيّاً على الغياب أو التواري، وفيه من اللمعة في المغزى ما ترتجّ له الفرائص إجلالاً لا خوفاً.

كان القطب الصوفي عمر السَهْرَوَرْدي (شهاب الدين أبوحفص عمر السَهْرَوَرْدي البغدادي، أحد علماء أهل السنة والجماعة ومن أعلام التصوّف السني في القرن السابع الهجري، ومؤسس الطريقة السَهْرَوَرْدية الصوفية، صاحب كتاب «عوارف المعارف») في مجلسه فأنشد:

ما في الصحاب أخو وجْد تطارحه

إلا محبٌّ له في الركْب محبوبُ

وكرّره فلم يتأتَّ له إكماله، فقام شاب وأنشد:

كأنما يوسفٌ في كل راحلة

له وفي كل بيت منه يعقوبُ

فصاح القطب ونزل من على المنبر وقصد الشاب فلم يجدْه ووجد مكانه حفرة فيها دم!

إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"

العدد 3712 - الأحد 04 نوفمبر 2012م الموافق 19 ذي الحجة 1433هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 1 | 2:30 ص

      امام علي (ع)

      اصبح العالم من حولنا يااخي العزيز عالم بلاستيك ومادي وكم نحن اليوم بحاجه لعظماء الماضي الحقيقيين مثل امام علي واشخاص زهداء وحكماء لكي يعيدوا لنا مشاعرنا واحاسيسنا الحقيقي الغير مشوه والضائع في عالم المادي التافه.

اقرأ ايضاً