يبدو أن الربيع الثوري ترك أثره الواضح على الكثير من الإسلاميين، وخصوصاً فيما يتعلق بالموقف من الغرب وبالأخص الموقف من أميركا. نتذكر موجة الغضب التي أعقبت الرسوم الدنمركية، والتي أدت إلى اقتحام مجموعة من البعثات الدبلوماسية بل وإحراق السفارة الدنمركية بدمشق. آنذاك لم نسمع أصواتاً إسلامية تندد بهذه الأعمال وتعتبرها خروجاً عن الدين والأعراف الدبلوماسية، بل يمكن القول إن أغلب المظاهرات والفعاليات المنددة بتلك الرسوم كانت من تأطير الإسلاميين أنفسهم. كما تعرضت بعض الخطوات العقلانية للنقد وثم الاستهزاء من أصحابها، كما حدث مع عمرو خالد الذي كان قد زار الدنمارك على رأس وفد من الشباب للرد على تلك الرسوم.
وتزعم الحملة على دولة الدنمارك، البلد الصغير الذي اعتذرت حكومته عن تلك الأفعال مدعية أن حرية التعبير التي سطرها الدستور لا تسمح بمحاكمة مقترفها، نقول تزعم تلك الحملة إسلاميون كثر ومشايخ كبار، داعين إلى مقاطعة البضائع الدنماركية من دون التمييز بين الحكومة الدنمركية وتصرفات بعض مواطنيها. وصدرت دعوات المقاطعة عن الاتحاد العالمي للعلماء المسلمين الذي يرأسه الشيخ القرضاوي، إذ جاء في البيان الصادر عن الاتحاد «دعوة المسلمين في كل أرجاء الأرض إلى مقاطعة المنتجات والبضائع الدنماركية والنرويجية».
بينما اتخذت مواقف قيادات جماعة «الإخوان المسلمين» بمصر طابعاً تصعيدياً (مخالف تماماً لمواقفها الحالية من الفيلم والتي سنتطرق لها بعد قليل). ويمكن أن نلخص تلك المواقف على الشكل التالي: مهدي عاكف، مرشد الجماعة، يندد بالرسوم المسيئة ويدعو إلى مقاطعة المنتجات الأميركية؛ الكتلة البرلمانية للإخوان تتقدم بـ 20 بياناً عاجلاً وطلب الإحاطة للحكومة مطالبين بسحب السفير من الدنمارك وقطع العلاقات معها؛ البلتاجي ينتقد تعامل الغرب مع الإساءة باعتبارها مجرد حرية للتعبير.
اليوم وبعد موجة الربيع الثوري التي أوصلت بعض الإسلاميين إلى كرسي الحكم في مجموعة من الدول، خفت حدة النقد الموجّه للحكومات من قبل الإسلاميين، وظهرت المواقف «المتعقلة» التي تدين العنف وتميّز بين مواقف مواطني الدول وتلك الدول. كما دعت جل القيادات الإسلامية الشعوب إلى التعقل وعدم الانجرار إلى الفتنة، والرد على الفيلم المسيء للرسول (ص) - والذي تتجاوز إساءته تلك التي عبرت عنها الرسوم الدانمركية – بالوسائل السلمية والتي من أهمها العمل الجاد والحوار المثمر والرقي بالمجتمعات، بدل الخضوع للاستفزاز.
هذا التحول نلمسه في مجموعة من التصريحات، وأهمها ما جاء على لسان الشيخ القرضاوي نفسه في قناة الجزيرة عندما قال: «من يريد مقاتلة الأميركان فليذهب إلى الولايات المتحدة ويفعل ذلك بعيداً عن بلاد المسلمين، أما قتل السفراء في بلاد المسلمين فهو حرام لأنهم مؤَمنون على حياتهم»، وأوضح أن «السفراء والرسل مؤمنون على حياتهم في الدول العربية وبلاد المسلمين، وأن من حق كل إنسان الاحتجاج السلمي على الإساءة للنبي شرط عدم التعدي على الآخرين... مثلما حدث في ليبيا». ونبّه رئيس الاتحاد العالمي للعلماء المسلمين ومنظر «جماعة الإخوان المسلمين» التي يرأس أحد كوادرها الدولة المصرية، إلى أن «الرد على الفيلم المسيء يجب أن يتم بفيلم آخر، لأن لغة العصر السائدة الآن هي لغة الأفلام، وأن دولة قطر تقوم على إنتاج فيلم مضاد باللغة الإنجليزية يحكى سيرة الرسول (ص) الصحيحة». فأين كان هذا الموقف حيال إحراق سفارة الدانمرك بسورية العام 2005؟ ولماذا اختفت الانتقادات الموجهة إلى الأنظمة؟
اللهجة نفسها في الخطاب نجدها عند أحمد الريسوني الذي دعا «المسلمين إلى عدم اللجوء إلى العنف رداً على الفيلم الأميركي» مع تنديده بقتل السفير الأميركي في ليبيا، وتأكيده على ضرورة الاحتجاج بشكل سلمي ومن دون عدوان على اعتبار أنه «لا يجوز مواجهة الجريمة بالجريمة، والإهانة بالدم»، وبدل أن يدعو الحكومات الإسلامية إلى مقاطعة المنتجات الأميركية وسحب السفراء، اقترح عليها «التحرك دولياً لمقاضاة أصحاب هذا الفيلم من أجل إصدار قرار يجرم الاعتداء على معتقدات الآخرين».
وكان الموقف الأبرز هو الذي تبناه القيادي بحزب العدالة والتنمية وحركة التوحيد والإصلاح المقرئ الإدريسي أبوزيد، المعروف بتزعمه دعوات مقاطعة المنتجات الأميركية والتوجس من الغرب، فلقد دعا «المسلمين إلى الارتقاء بوعيهم وعدم الانسياق وراء ردود حيوانية وانفعالية وغضبية تُمارِس ردود فعل على استفزازات مدروسة على يد قلة من اليهود الذين يقومون باستفزاز المسلمين ويدفعون المسيحيين إلى الاصطدام بهم».
وأما تيارات الإسلام السياسي التي تقود بعض الحكومات أو تشارك فيها، فكانت مواقفها مشابهة لمواقف الأنظمة التي سبقتها. حيث التنديد بالإساءة إلى الرسول والدعوى إلى التعقل، وفي الوقت نفسه حماية السفارات الأجنبية ومواجهة من سوّلت لهم أنفسهم اقتحامها ثم اعتقالهم، بل واتهامهم بالبلطجة والحصول على أموالٍ من أجل التظاهر، أو نسبتهم إلى فلول النظام السابق والأجندات المنافسة، وهو الأمر الذي سارت عليه الحكومات؛ المغربية والمصرية والليبية والتونسية.
وفي هذا الصدد جاء لقاء القيادي بحزب العدالة والتنمية ووزير الخارجية سعد الدين العثماني بنظيرته الأميركية الذي شدد فيه على إدانة أعمال العنف التي لحقت بالسفارات الأميركية؛ وكان الموقف المصري أكثر جذريةً من خلال اعتقال أكثر من 100 متظاهر حاولوا اقتحام السفارة ومحاكمتهم؛ بينما قال زعيم حركة النهضة في تونس راشد الغنوشي: «ليس كلّ من جاء للاحتجاج أمام السفارة الأميركية كان لرفض الإساءة التي لحقت سيد الخلق محمد عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام بل جاء من أجل النهب والسرقة من المحلات المجاورة للسفارة والمدرسة الأميركية»؛ وأما الحكومة الليبية فقد نسبت قتل السفير الأميركي لفلول النظام البائد؛ ولم تكتفِ قيادات التيار السلفي برفض محاصرة السفارة الأميركية، بل انتقلت بعض قياداته إلى محيط السفارة محاولةً صرف المتظاهرين عن اقتحامها، وكان من أبرز تلك القيادات المعتقل السابق «طارق الزمر» الذي وصف المتظاهرين بالبلطجية وبكونهم يسبون الدين بل واتهموه – على حد تعبيره - بالخيانة، وبالفعل يظهر مقطع على اليوتيوب محاولة الاعتداء التي تعرض إليها من قبل المتظاهرين.
ولم نسمع من قيادات جماعة «الإخوان المسلمين» تلك التصريحات التي أبرزنا جزءاً منها سلفاً، وإنما جاءت ردودهم على النسق التالي: محمد بديع، مرشد الجماعة، يؤكد أن الفيلم جاء فتنة يهودية خبيثة هدفها ضرب الاستثمار في مصر بعد النهضة!؛ خيرت الشاطر، الرجل الثاني في الجماعة، لا نحمل الحكومة الأميركية أو مواطنيها المسئولية عن أعمال فئة قليلة أساءت للقوانين التي تحمي حرية التعبير؛ البلتاجي يتهم المحرضين على الخروج في المظاهرات بأنهم يريدون توريط جماعة «الإخوان» في الدماء ويرفض المشاركة في مليونة «نصرة الرسول».
وحدها ليبيا شذت عن هذا التطور، ربما لسبب عدم وجود حكومة مركزية قادرة على فرض الأمن والسيطرة على الميليشيات المسلحة التابعة للجماعات الدينية المتشددة غير المشاركة في العملية السياسية، وربما كان بسبب فجائية الموقف وعدم اتخاذ السلطات الليبية والأميركية الإجراءات الضرورية لحماية أمن السفارة الأميركية. وإن كان المجتمع المدني الليبي سرعان ما استدرك هذا السلوك المتهور الذي أقدمت عليه قلة متهورة، إذ لم ينسَ أبناء مدينة بنغازي أن مدينتهم هي أول مدينة في العالم العربي رفع ثوارها العلم الأميركي، أيام الثورة والمواجهة كتائب القدافي، ابتهاجاً بالموقف الإيجابي الذي اتخذته الإدارة الأميركية، نقول تدارك شباب بنغازي الأمر وخرجوا في مسيرات ضخمة متوجهة صوب مقرات جماعة «أنصار الشريعة»، المتهمة بقتل السفير الأميركي، وأحرقوا أحد مقراتها وطردوا عناصرها من أغلب المواقع التي سيطروا عليها.
وإذ ننوه بهذا التحول المهم في فكر وسلوك التيار الإسلامي اتجاه قضية الإساءة إلى الرسول (ص)، فإننا نحرص على ألا يكون ذلك مجرد تحول ظرفي أملته ضرورات المرحلة وكرسي الحكم وثقل الولايات المتحدة الأميركية في المشهد الدولي. بل لابد من إرفاق هذا التحول بتحول موازٍ على المستوى الفكري والثقافي وبعث سؤال التجديد ومساءلة المسلمات القبلية، بما يساعد على بناء فكر سياسي متطور يرتكز على مدنية الدولة وتنسيب المواقف السياسية والتمييز بين الرؤى الدينية والسياسية. فبعض المواقف السياسية، في الغالب، لا تكون منبثقة عن مبادئ صلبة لا محيد عنها، وإنما قد تكون ناتجةً عن الصراع السياسي والتخندق الايديولوجي. فلا عجب أن تجد، مثلاً في مصر، التيار الإسلامي يهادن ويدعو إلى التعقل، بينما يدعو جزء من التيار المدني وأنصار الحزب الوطني البائد إلى إعادة الاعتبار إلى الرموز الدينية واتخاذ خطواتٍ جذريةٍ كطرد السفراء.
كما لا نعجب من استمرار بعض حركات الإسلام السياسي، التي لم تصل الحكم بعد، إلى السير على الخط التصعيدي نفسه اتجاه الغرب وذلك بتحشيد وتجييش الشارع ضده وضد الأنظمة التي تصفها بـ «المتخاذلة»، ونموذجه في المغرب الذي شهد تظاهرات للتيار السلفي المتشدد، الذي أخرج بعض الشباب إلى الشارع وحاصر القنصليات وحرض الناس على رفع شعار «أوباما… كلنا أسامة»، سواء وعوا بمضمون هذا الشعار وخطورته وتبعاته أو من دون الوعي به.
إقرأ أيضا لـ "منبر الحرية"العدد 3703 - الجمعة 26 أكتوبر 2012م الموافق 10 ذي الحجة 1433هـ