في زيارتي الأخيرة والأولى لفلسطين المحتلة في أواخر الصيف فوجئت بكم يشعر عرب فلسطين على الأرض بالاختناق من جراء تناقص الدعم العربي وصعوبة وصوله إليهم في ظل السياسة الإسرائيلية التي تأخذ يومياً قطعاً جديدة من أراضيهم وتشيد مستوطنات معدة لاستقبال مستوطنين يهود.
المجتمع الفلسطيني يتعامل في هذه المرحلة مع مفهوم جديد للمقاومة جوهره: البقاء على الأرض وحماية وجوده ومؤسساته وتنميتها. وبينما الرسميون العرب يتعاملون على كل المستويات، حرمت قوى التغير العربي نفسها من القدرة على التحرك لدعم مشروعها العربي ومشروع الصمود في فلسطين.
يقول أبو علاء منصور المناضل الذي يمارس الآن في فلسطين المحتلة دوراً مع المقاومة الشعبية بعد أن مارس رؤيته للكفاح في زمن المقاومة المسلحة في السبعينيات: «في الماضي وفي السبعينيات تحديداً كان من يؤيد قضيتنا من المناضلين والشبان العرب يذهب إلى جنوب لبنان للتفاعل مع العمل الفدائي، لكننا الآن نقف على الأرض الفلسطينية في ظل ظروف شاقة، لقد أصبح شكل العمل الفدائي الجديد عملاً شعبياً يقاوم الاستيطان والاحتلال الإسرائيليين. العرب لا يأتون إلينا في فلسطين المحتلة خوفاً من التطبيع مع الكيان الإسرائيلي، لكنهم في هذا يتركوننا وحدنا في معركة غير متكافئة وكأنهم يقبلون بأن السلطة الحقيقية هي سلطة الاحتلال. هذا الوضع يخلق هوة بين حراكنا الفلسطيني وحراكهم العربي الكبير وبين وعينا لواقعنا ووعيهم لموقع القضية في ضميرهم السياسي. يجب أن نكتشف طريقةً لكسر هذا الحاجز وتحويل فلسطين إلى مكان يحج إليه كل من يستطيع من العرب».
وفي تعبيرات أبو علاء منصور جانب كبير من الصحة والأسى في الوقت نفسه. فعلى سبيل المثال في قرية بلعين المقاومة والتي قضم الجدار أجزاءً من أراضيها، وقع نضال ناجح على مدى طويل لانتزاع تلك الأراضي، وقد نجح النضال في تجميع فلسطينيين وقوى سلام عالمية ويهودية وإسرائيلية داعمة لقرية بلعين في مواجهة الجدار. ولم يكن من الممكن بطبيعة الحال قدوم العرب من مصر والمغرب ولبنان والأردن والخليج للتضامن مع أهالي بلعين. المواطنون العرب، على قلتهم، الذين نجحوا في كسر الطوق وجاءوا إلى بلعين للتضامن كانوا من حملة الجنسيات الأوروبية والغربية والأميركية. فقوانين البلاد العربية تمنع ذهاب العرب إلى المناطق العربية المحتلة في فلسطين بحجة أن هذا تطبيع مع دولة عدو. لهذا بالتحديد ينجح الأوروبي في كسر الحواجز والمجيء إلى فلسطين بينما لا يستطيع العربي القيام بذلك. ولو تعمقنا أكثر سنجد أن في عكا، على سبيل المثال، في وسط الكيان الإسرائيلي الذي قام عام 1948، أسواقاً عربية كاملة مهددة، وتاريخاً عربياً وأسواراً وقلاعاً مهددة بالتهويد، وبإمكان العرب أن يفعلوا الكثير لحماية هذا الوجود العربي الذي يمتد إلى الناصرة ومدن أخرى ومناطق واسعة في قلب المناطق التي قامت عليها الدولة اليهودية عام 1948.
ويمكن القول إن واحدةً من أجرأ المحاولات لكسر الطوق على فلسطين وقضيتها هي تلك التي وقعت من قبل السفن التركية عند محاولتها خرق الحصار على غزة، والتي شارك فيها متضامنون وبرلمانيون عرب وخليجيون وأوربيون وأتراك. ولو فكرنا بصورة أعمق سنجد أن الضفة الغربية والقدس على الأخص بحاجة للتضامن والمحاولات ذاتها بوسائل أخرى، وهذا لن يكون متوافراً للعرب إلا إذا ذهب نشطاء العمل السياسي والحقوقي من العرب إلى أرض فلسطين بهدف التضامن مع قضيتها. وفي عملهم هذا يجب أن يكون معهم جيشٌ من المحامين ليدافعوا عنهم بخاصة في دولهم العربية التي لن تقبل حراكاً شعبياً هدفه التفاعل مع القضية الفلسطينية، وذلك لأنها تفضل القنوات الرسمية التي تتحكم بها.
هذا يتطلب من العالم العربي إعادة تعريف التطبيع ليستثني من يدخل الأرض الفلسطينية بدعوات من قوى فلسطينية مدنية (بما فيها القوى المدنية العربية في فلسطين 1948) هدفها دعم صمود سكان فلسطين العرب مهما كانت طريقة الدخول (بإذن إسرائيلي أو بإذن دولي أو عبر شركات سياحية وسفارات إسرائيلية أو غيرها من الطرق الشرعية وغير الشرعية). فالهدف أهم من الوسيلة، وميزان القوى يفرض نفسه في هذه المرحلة.
إن كل من يذهب إلى فلسطين وهدفه الصلاة في الأقصى أو في كنائسها والتفاعل مع سكانها العرب والمساعدة على دعم نضالهم وصمودهم على الأرض ليس مطبّعاً، حتى لو وقف على الحواجز الإسرائيلية وأمام السفارات الإسرائيلية أياماً ليصل إلى هدفه.
ولو نصب نشطاء مصريون وأردنيون وكويتيون وفلسطينيون ممنوعون من العودة خياماً أمام إحدى السفارات الإسرائيلية في الدول العربية مطالبين بحقهم في العودة وفي الصلاة في القدس، فهذا شكل من أشكال النضال السياسي والحقوقي الذي يجب أن نفعله كعرب. علينا أن نغيّر نظرتنا ونطوّر وسائلنا، وذلك لأن الأرض المغتصبة هي أرضنا التي صودرت منا، والمكان المحتل هو مكاننا، والعربي الذاهب إلى فلسطين ذاهبٌ إلى واحدةٍ من أجزاء الوطن العربي الكبير، وما الاحتلال بشكله الراهن إلا صورة تفرض تعاملاً صائباً.
ألم يصلّي الرسول عليه الصلاة والسلام في مكة ويحج إليها بعد صلح الحديبية وهي تحت حكم المشركين؟ ألم يحج إليها بعد موافقتهم على ذلك الحج في صلح الحديبية؟ بالطبع كانت للمشركين حساباتهم، ولكن أيضاً للإسرائيليين حساباتهم تجاه الرأي العام وتجاه الفوائد الاقتصادية، لكن للحركيين والحقوقيين العرب أيضاً حساباتهم. كل صراع واحتلال يتطلب حسابات في التعامل والمواجهة.
زيارة أمير قطر منذ يومين إلى غزة المحاصرة والمحرّرة، تصب في المحاولات ذاتها لإعادة البوصلة لمكانها. هذه مبادرةٌ من دولة عربية وخليجية، وليتها تكون الأولى في سلسلة مبادرات، وذلك لما لهذا التضامن من معانٍ وأبعاد.
إن العمل لدعم مؤسسات الشعب الفلسطيني التعليمية والسكنية والطبية والبنى التحتية التي تساهم في الصمود والبقاء على الأرض، مدخل من مداخل المرحلة. البقاء على الأرض ليس شعاراً نردّده بل عملٌ يتطلب مواقف داعمة ومبادرات مؤثرة.
ولو تمعنّا في تاريخ القضية الفلسطينية لوجدنا أن اليهود الذين جاؤوا إلى فلسطين مبكراً مع نهاية القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، لم تكن تهمهم وسيلة القدوم طالما نجحوا في وضع أقدامهم على أرض فلسطين بغرض البقاء والاستيطان. بعضهم جاء بإذن رسمي من الدولة العثمانية ثم الاستعمار البريطاني منذ أوائل القرن العشرين وحتى عام 1948، كما أن معظمهم جاءوا في الفترة نفسها بوسائل التهريب. وسنجد أن قطاعاً كبيراً منهم حصل على الجنسية البريطانية في فترةٍ من الفترات في زمن الدولة العثمانية ليكونوا تحت حماية بريطانيا بصفتهم رعايا بريطانيين، وذلك ليضمنوا البقاء في فلسطين وعدم المغادرة. في النهاية قضموا الأرض وطردوا السكان وأنشأوا إسرائيل.
آن الأوان بعد أن وصل التطبيع الرسمي العربي إلى ما وصل إليه، أن يفكّر الحقوقيون والنشطاء والمثقفون العرب الملتزمون بقضية فلسطين، بدخول فلسطين واعتبار ذلك حقاً أصيلاً لهم يساهم عند ممارسته في بناء أسس التواصل والعلاقات والصمود وتفاعل القضايا وربطها ببعضها. فرص التواصل والتفاعل كبيرة، ففي فلسطين خزّان التاريخ وصورةٌ تعكس الصراع بين أسوأ ما أنتجته الحضارة الغربية وحالة الحضارة الشرقية العربية الإسلامية وهي تسعى لنفض غبار الزمن عنها.
إقرأ أيضا لـ "شفيق الغبرا"العدد 3702 - الخميس 25 أكتوبر 2012م الموافق 09 ذي الحجة 1433هـ