لا أحد يملك وصفةً كي يُحبَّه الآخرون. الآخرون لا يملكون وصفةً كي يحبّهم أحد. الحبُّ لا خريطة جاهزة له. حين تجهز خريطة أو يتم ارتجالها في حاسة وخيار مثل ذاك لا يعود حبّاً ربما هو شيء آخر. أن تحبَّ يعني أن تبصر بحواس حادّة. حواس ليست تلك التي عهدناها في تشريح خريطة الانتباه لدى الإنسان. أن تحب يعني أن تكون مستعداً لأن تكون هدفاً ومرمى للذين لا نصيب ولا حظ لهم من تلك النعمة والعذاب أيضاً. في الحبّ عذاب حين يُساءُ فهمُك أو حين تسيءُ فهمَ الآخرين. الذين ولدوا كي يحبوا ولدوا لاختبار تحدٍ. تحدي أن يذهبوا بعكس التيار وبعكس ما يراد له أن يسود وعلى الضدّ مما يخطط ويهندس ويرسم للعبث بالحياة وبشرها وكائناتها عموماً.
يراد للنقيض أن يسود ويهيمن ويستوي على تلّة الخراب. خراب كل شيء. لن تجد شيئاً ومعنى وقيمة وجمالاً في الرائحة لحظة تسود تلك العلّة والوباء. الكراهيةُ موتٌ مع وقف التنفيذ. موتُ كل قيمة فيها ناموس وشرف ورفْعة.
عندما يتحول صاحبها إلى حال الكراهية والتمييز بالنسبة إلى الأصحّاء يصبح شيئاً أكثر منه بشراً. الكراهية تمعن وتحاول وتسهر على تشيئ البشر وما يضج فيهم من سمو معنى ورفعة قدْر.
أن تحب يعني أن تكون على قدر المسئولية أمام الذين يرون في الحب كارثة وتآمراً ومحاولة سحب البساط من تحت أرجلهم التي بها يفكرون في التعاطي مع العالم من حولهم. لأنهم جُبلوا على الكراهية ولا يحسنون شيئاً في هذه الحياة التي ابتليت بهم.
أعلم أنه من العبث وإهدار الوقت الحديث عن الحب في هذه المرحلة التي يراد لها أن تكون رمادية. رمادية بنفوس ودخائل بعض أهلها الذين لا يستقيمون في الحياة مع حق ومُثُل. رمادية بالتلوّن والتقلّب وتغيير المواقف تبعاً للمصالح والمنافع والغنائم؛ تماماً كحرباء لكن الأخيرة لا إرادة لها في ذلك الفعل وبعض المحسوبين على البشر يلتقون معها في ذلك؛ أو يريدون أن يتماهوا معها.
أعلم أن الحب بحسب الطلب والمواصفات من حولنا في شواهد ممارسات دول وأشخاص، بات سلعة كريهة مقلّدة تجدها على الأرصفة وغرف الفنادق ولم تعد بتلك الوفرة في الزمن الذي توارى وكان مليئاً بالطيبة والعفوية. بطيبة الناس وعفويتهم.
وُجد هذا العالم أساساً لإشاعة الحب. الكراهية استثناء وإن بدأ بها الدم الأول عبر مدخل الغيرة التي مازال الإنسان يستمرئ الاستمرار فيها بشكل بغيض، تلك التي لم تفصلنا كثيراً عن عالم الغاب. عالم الغاب له عذره. كائناته لها عذرها لم تدخل في تجارب تأهيل في الصراع وأضداده في بيئات تتيح ذلك بضوابط وقوانين. بعض الضوابط والقوانين اليوم تظل من أسباب هذا الانفلات والترصّد للحب كقيمة بتمييز هنا ومحاباة هناك و «هذا ولدنا» هنالك!
كل هذا الاستفحال في الخلل اليوم إن على مستوى العلاقات بين الدول أو مستوى العلاقات بين الأفراد هو نتاج التغييب لتلك القيمة التي وُجد من أجلها هذا العالم ووُجد من أجلها الإنسان (الحب). لن يعمر ويطمئن ويضمن العالم سلامه المؤقت أو الدائم باتكائه على أدوات حمايته التي تتكفل بها الآلة مادام خاوياً وفارغاً ومخترقاً وعلى استعداد لأن ينسى من هو وما هو دوره والقدرة الاستثنائية والطاقة الجبارة التي يملكها ويستطيع من خلالها تغيير وجه هذا الكوكب الكالح والحالك في الوقت نفسه.
الآلة لا تعرف الحب؛ عدا ادّعائها أنها قادرة على تكريس حب أحدهم وبأي ثمن!
وفي الحب أيضاً أكثر من تهلكة لا تهلكة واحدة. أن تحبّ مع علمك أن مثل ذلك الحب سيجرّ عليك وبالاً واضطراب حال؛ فيما تُقابَل بآخر صرَعات ووصفات وتركيبات الخبث والنكران؛ بل وأبعد من ذلك بمراحل، حين تُستهدف في روحك وتفاصيلك بسبب ذلك الحب. أن تدان به ولم ترْجُ أساساً أي إكليل يوضع على رأسك حياً أو على قبرك ميتاً.
ذلك حال شعوب اليوم لا ترى حباً يمكن التفرّغ له إلا للأوطان التي تحب وتعشق؛ لكن المراحل ليست وحدها التي تصوغ قناعات وثوابت الإنسان حتى في البديهي والفطري ولكنه عصيّ على التصنيف وعصيّ على وضعه في قفص أو مهبّ الإدانة هكذا بقرار مزاج أو مزاج قرار لا فرق.
الحب إيثار تكاد جوارح الإنسان تقف أمامه مذهولة لا خيار لها في أن تبدي رأياً إزاءه. لا شيء يقال بعده. قصة إيثار ربما أوردها للمرة الثانية هنا فقط لنقف ونذكّر بإيثار مفقود وحب أكثر فقداً. لنتذكّر أن الإيثار ذروة الحب ولا ذروة بعده. الحب الذي لا يحتاج إلى أجهزة إعلام أو مكاتب علاقات عامة هي في حقيقتها مكاتب دجل وغسل أموال من نوع آخر.
ذكر الرحالة والمؤرخ أبوالحسن علي بن الحسين بن علي المسعودي في سفْره «مروج الذهب ومعادن الجوهر»، «عن الواقدي، محمد بن عمرو بن واقد، مولى لبني هاشم، وهو صاحب السيَر والمغازي، وقد ضعف في الحديث، قال: كان لي صديقان أحدهما هاشمي، وكنّا كنفس واحدة، فنالتني ضيقة شديدة، وحضر العيد، فقالت امرأتي: أمّا نحن في أنفسنا فنصبر على البؤس والشدة، وأما صبياننا هؤلاء فقد قطّعوا قلبي رحمة لهم، لأنهم يرون صبيان الجيران قد تزيّنوا في عيدهم وأصلحوا ثيابهم، وهم على هذه الحال من الثياب الرثّة، فلو احْتَلْتَ بشيء تصرفه في كسوتهم.
قال: فكتبت إلى صديقي الهاشمي أسأله التوسعة عليّ لما حضر، فوجّه إلىّ كيساً مختوماً ذكر أن فيه ألف درهم، فما استقرّ قراري حتى كتب إلىّ الصديق الآخر يشكو مثل ما شكوت إلى صاحبي، فوجّهت إليه الكيس بحاله. وخرجت إلى المسجد فأقمت فيه ليلي مستحيياً من امرأتي، فلما دخلت عليها استحسنتْ ما كان منّي ولم تُعنّفني عليه.
فبينا (أي بينما) أنا كذلك إذ وافى صديقي الهاشمي ومعه الكيس كهيئته، فقال لي: أصدقني عمّا فعلته فيما وجّهتُ إليك، فعرّفته الخبر على جهته (أي كما حدث). فقال: إنك وجّهت إليّ وما أملك على الأرض إلا ما بعثتُ به إليك، وكتبتُ إلى صديقنا أسأله المواساة، فوجّه بكيسي بخاتمي. قال: فتواسينا الألف ثلاثاً بعد أن أخرجنا إلى المرأة قبل ذلك مئة درهم، ونُمي الخبر إلى المأمون فدعاني، فشرحت له الخبر، فأمر لنا بسبعة آلاف دينار: لكل واحد ألفا دينار، وللمرأة ألف دينار».
نفتقد الحب لأننا نفتقد الإيثار. الحياة من دونه بمثابة محطة عذاب نشهده بكل ما أوتي هذا العصر من تقنيات الرصد. قصة كتلك للذين يعبثون بالعلاقات بين البشر تلك التي عمرها من عمر الإنسان وحقيقة وفعل وجوده. وكفى بالمثل إشارة وشاهداً.
إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"العدد 3701 - الأربعاء 24 أكتوبر 2012م الموافق 08 ذي الحجة 1433هـ
الحب اعمى
بعض الاحيان نضحي وتعطي وتاثر لشخص لا يعرف قدرك ويحتقرك ....هل هو القدر الالهي!؟زمن عجيب!
الرصاصي
اهم شي هو ان لا يعطي احدا ما حبه وايثاره الا لمن يستاهله
إنسانية الحب
إنسانيتك ياجعفر تكتبك
وتهيأ لنا أمكنة نستشعر فيها وطنا أكبر
الحب ايثار
اعطيت الحب معنى آخر اجمل, حقًا الحب ايثار, ولو فهم ذلك مدعو الحب لما ورطوا انفسهم بالكذب
القصة التي انتقيتها استاذ جعفر, ابكتني, ربما لأننا نفتقد هذه الاحاسيس والافعال في وقتنا الحالي
مقال رائع يلامس الروح
موفق لكل مقال مبدع
مبدع أستاذ جعفر