السيدعلي بن إبراهيم كمال الدين (1907 - 1974) واحد من قادة هيئة الاتحاد الوطني في الخمسينيات، والتي نعيش هذه الأيام ذكرى تأسيسها. ورجال هيئة الاتحاد الوطني (1954 - 1956) لم يكشف دورهم الوطني بعد، والمكتبة التاريخية البحرينية تعاني نقصاً حاداً في تناول الدور السياسي لزعماء حركة النضال الوطني لأسبابٍ متعددةٍ وقد تبدو معروفة.
ولدت هيئة الاتحاد الوطني في بداية الأمر كطرف وسيط لاحتواء مأزق التناحر الطائفي الذي حصل في موسم عاشوراء في سبتمبر/ أيلول 1953، لكنها تحوّلت فيما بعد جبهة ائتلاف وطني لمقاومة الإنجليز والمطالبة بالإصلاح السياسي. وقد طالبت الهيئة حسبما يذكر الباكر بـ «تأسيس مجلس تشريعي يمثل أهالي البلاد من خلال الانتخاب الحر، وضع قانون عام للبلاد جنائي ومدني على يد لجنة من رجال القانون يتماشى مع حاجاته وتقاليدها المرعية على أن يعرض هذا القانون على المجلس التشريعي لإقراره، وقد كان هذا القانون يستهدف: إصلاح المحاكم وتنظيمها وتعيين قضاة ذوي كفاءة يحملون شهادات جامعية في الحقوق. السماح بتأليف نقابة للعمال ولأصحاب المهن الحرة تعرض قوانينها ولوائحها على المجلس التشريعي لإقرارها، تأسيس محكمة عليا للنقض والإبرام مهمتها الفصل في الخلافات التي تطرأ بين السلطة التشريعية والتنفيذية».
بعد انفجار الصراع الطائفي وضمن مساعي عبدالرحمن الباكر (ت 1971) لاحتواء الفتنة، قصد الأخير الوجيه منصور العريض طالباً منه التدخل لإنقاذ الموقف وتهدئة الشيعة، فأجابه العريض: «إن الشخص الوحيد القادر على التغلغل في نفوس الشيعة والتأثير فيهم وصاحب الكلمة النافذة هو السيدعلي كمال الدين فاذهب له وفاتحه في الأمر»... وهذا ما حصل.
لقد اجتمعت، فيما أرى، ثلاثة عوامل في تشكيل الشخصية الوطنية للسيدكمال الدين أوجزها في التالي:
- تقاليد التراث العلمي لعائلة الغريفي. يقول العلامة الأميني: «آل الغريفي من أسمى البيوت مجداً وشرفاً وأعلاها نسباً ومذهباً، وأرفعها في المكانة العلمية والثقافية والدينية، وأشهرها في الملأ الشيعي العلوي، رجاله معروفون بكل فضيلة، فيهم علماء وفقهاء وزعماء وأدباء، يوجد جميل ذكرهم في كثير من المعاجم، وهذه الشجرة الطيبة أصلها ثابت في غريفة وفروعها نامية في النجف والبصرة والمحمرة ومينا بوشهر وشيراز وطهران وبهبهان».
- لعبت الظروف السياسية والاجتماعية التي تمر بها البحرين في عهد الحماية البريطانية، دوراً أساسياً دفعت بالسيدكمال الدين إلى نزول الميدان السياسي استشعاراً منه لنداء الواجب الوطني والشرعي، وممارسة دور طليعي في قيادة وتعبئة الجماهير التي كانت متعطشة إلى الإصلاحات السياسية.
- لم يكن كمال الدين بعيداً عن التجربة الوطنية الإسلامية في أحداث ما عرف بـ «ثورة العشرين الكبرى» في العراق، والتي أفضت إلى إجلاء الإنجليز منها، حيث قدّمت نموذجاً أمثل لدور عالم الدين في محاربة فلول الاستعمار الإنجليزي من الأرض الإسلامية. لقد جاءت حركة الجهاد الأولى في العراق والتي قادها واشترك فيها العلماء ورجال الدين الشيعة استجابةً لدواعي الانسجام مع الإطار العام لفتوى الجهاد التي أطلقها شيخ الإسلام - الذي كان يمثل المرجعية السُنية للمسلمين في العالم - باسم الدولة العثمانية، وفي ذلك مغزى عميق الدلالة على صعيد الشعور بروح الأخوّة الإسلامية الواحدة والصادقة على رغم المعاناة التي تعرض لها الشيعة من جانب الدولة العثمانية.
ولقد شارك في جبهات القتال ضد الإنجليز العديد من المجتهدين وعلماء المؤسسة الدينية الكبار، وهو ما عكس وعياً سياسياً وطنياً متقدماً لدى المرجعية الشيعية في العراق آنذاك.
هذه التجربة التي عايشها السيدعلي كمال الدين في العراق مع أخيه السيدحسين (والد السيدعبدالله الغريفي أحد كبار العلماء في البحرين اليوم) وهو في عامه الثالث عشر من العمر، قد ألهبت حسه الوطني وأنضجت وعيه السياسي ومنحته فهماً مغايراً لدور عالم الدين، فأدرك أن على عاتق عالم الدين مسئوليات وطنية يجب الاستعداد لها من حيث الانشغال بقضايا مجتمعية لها صلةٌ بواقع الناس وبهموم الوطن، وليس الاستغراق أو الاكتفاء بالتحصيل الشرعي، والانشغال بالعبادات وممارسة مسئوليات الأحوال الشخصية من تزويجٍ وتطليق.
جاسم مراد أكّد لي حين وجّهت له سؤالاً عن طبيعة دور السيدكمال الدين أن «دوره كان محورياً ومهماً جداً في عمل الهيئة، وخصوصاً في الريف والقرى حيث الأغلبية الشيعية. لقد كان يتمتع باحترام وتقدير اجتماعي كبير، ولاسيما أنه عالم دين يحظى بشعبية كبيرة في تلك الأوساط. لقد كان شخصيةً وطنيةً، غير أن عبدالرحمن الباكر كان أكثر أعضاء الهيئة حنكةً سياسيةً، وأكثرهم تعليماً، وكان قد حظي بتعليم حديث، وكان يمثل واجهة الهيئة وعقلها المفكر».
عاش السيدكمال الدين منذ ولادته في العراق 14 عاماً، ولم يدر بخلده أن نشاطه السياسي سيعيده بغير اختيار هذه المرة إلى مرابع صباه في النجف للمرة الثالثة، فقد عاش في النجف طفولته وعاد إلى وطنه، ثم رجع العراق «طالباً للعلم» مستزيداً للتحصيل في حوزاتها العلمية سنة 1926 ليقضي سبع سنوات فيها، ثم يعود مرةً أخرى إلى البحرين سنة 1933، ثم تدور عجلة السنين ويأتي منعطف الخمسينيات لتشرد قادة الهيئة بين سجون جزيرة سانت هيلانه وجزيرة جدة، ومنافي الأرض العربية.
استغل السيدعلي كمال الدين إقامته في النجف الأشرف في الانكباب على التحصيل العلمي إلى أن بلغ مراحل علمية متقدمة فحضر دروس بحث الخارج على مراجع عصره كالسيد أبي الحسن الأصفهاني (ت 1945) والسيدمحسن الحكيم (ت 1970). وحين عاد إلى البحرين عاد ممثلاً عنهما.
بعد أن قضّى 14 عاماً في منفاه النجفي، عاد كمال الدين إلى وطنه البحرين، إثر الزيارة التاريخية للأمير الراحل الشيخ عيسى بن سلمان آل خليفة للعراق العام 1968 في مسعى بدا وكأنه محاولةٌ لترتيب أوضاع ما بعد الاستقلال، والاستعداد لخوض معركة السيادة العربية للبحرين.
بعد عودته للبلاد، اعتزل كمال الدين العمل السياسي. لقد كانت لكمال الدين علاقةٌ وثيقةٌ مع الشيخ عبدالحسين الحلي (ت 1956)، قاضي محكمة التمييز في البحرين، الذي كان له دورٌ في أحداث ثورة العشرين الكبرى في العراق قبل أن يبتعد عن الهم السياسي في بلده وينتقل إلى البحرين. وربما اشترك الاثنان في هذا الاعتزال بوحي من الظروف الاجتماعية التي أحاطت بالحدثين.
رحمك الله يا أبا محمد حسن ورحم الله أبطال الهيئة الذين شكّلوا علامةً مضيئةً في تاريخ العمل الوطني العابر للطوائف.
إقرأ أيضا لـ "وسام السبع"العدد 3699 - الإثنين 22 أكتوبر 2012م الموافق 06 ذي الحجة 1433هـ
نعم الرجال أنتم
هكذا الوطن وذاكرته تحتفظ بكل عمل وعامل له فهناك صفائح بيضاء وهناك
صفائح سوداء فكونوا من ذوي الصفائح البيضاء
أتمنى على الكاتب لو راجع تاريخ ولادة السيد وشكرا لمن يكتب
سير من تستحق قراءة سيرهم فهي نماذج للمشتغلين بالسياسة اليوم