يرسم الحاج المشتاق إلى ربه في رحلته لأداء فريضته أهدافاً عدة، يبدأها بأموره الحياتية، وينهيها إلى الهدف الأكبر وهو الجنة التي تتطلع لها قلوب المؤمنين في لهفة وحسن ظن بالله.
سيخوض الحاج معركته الكبرى مع نفسه الأمارة بالسوء، ومع الشيطان الرجيم الذي يتربص به الدوائر، وسيبدأ التخطيط لمستقبل حافل بالإيمان والإحسان والعمل الصالح.
كنت أتحدث مع الكثير من الحجاج الذين يرافقونني في الحملة، وأقول لهم إن مشكلة الواحد منا، وأحياناً مشكلة الجماعة منا أو المجتمع، أننا نقرر معركة معينة واضحة الطريق والمعالم والأهداف والمبتغيات في حياتنا اليومية، لكننا بعد حين نرى أنفسنا قد دخلنا في معارك أخرى، إما في غفلة من أمرنا، أو بانفعال لا يتقيد بضابط ما، أو بفرض تلك المعركة علينا ومن ثم استجابتنا الطوعية لها.
ينسى الحاج أحياناً تأمله وتفكره أثناء الطواف ليصب اهتمامه في مدافعة الطائفين والرد على من أخطأ التصرف منهم، والتعامل بقسوةٍ وخشونةٍ مع بعض الحجيج المفتقرين إلى ثقافة الحج، وحسن أداء المناسك.
بعض الطائفين يشتم، وبعضهم يضرب، وبعضهم يؤذي من ضايقه، والعاقل منهم يصفح ويسمح ويتجاوز ويعفو، لا لأنه صاحب هدف وحسب، بل لأنه متمسكٌ بهدفه، فلا يستجيب للضغوط، ولا للمعارك الوهمية، ولا للنزال المفروض عليه في الزمان والمكان الخطأ.
يمكن للكثير من المعارك الجانبية أن تفرض نفسها عليك وتضغطك، وتدعوك للاستجابة لها، لكنها قد تؤثر على معركتك الرئيسة، وقد تضيع أهدافك، وتخرب كل خططك وتوجهاتك.
قبل نحو عامين تلاسن أحد الحجاج مع بعض القائمين على تنظيم الحج وقوانينه، ولأني أعرف هذا الحاج فقد أصررت عليه أن ينسحب ويترك الموضوع ولا يكترث به، مهما كانت المقدمات التي بنى عليها انفعاله وحدته، لكنه رفض بسبب الغضب والتوتر العنيف الذي هيمن على نفسه، فانتهى الأمر إلى توقيفه، ولأنه لم يبق على العيد إلا يوم واحد باءت كل الجهود في إخراجه بسبب إجازة العيد، وضاع حجه.
مقابل هذا الحاج حدثني شاب في الحج عن مشاكل المتعهد بحجهم (الحملة) التي اتعب بها الحجاج، وتجاوز فيه كل الاتفاقات التي كانت بينه وبينهم، ما سبّب توترات ومشاحنات بين الحجيج وإدارتهم، وصلت أحياناً إلى التلاسن والسباب.
فسألته عن أبيه الكبير في العمر إن كان تأثر وتكدر بسبب ما حصل من المتعهد، فقال: والدي قرّر أن يعيش حجه، وقال لي مرات ومرات، أنا أعرف أن المتعهد يخدعنا، لكني سأتفرغ للحج وللعبادة، وسأسلمها بيد من لا يخدع عباده.
صغائر الأمور أحياناً قد تدفعنا في الحج وفي غيره أن ندخل في صراعات أغلب انتصاراتها وهمية ستتجاوزها الأيام، وسنضحك على أنفسنا إذا ذكرناها، ونحن نردد في أعماقنا، كم كنا بسطاء وسذجاً حين انجرفنا دون فرامل أو حسابات، وكم أضعنا فرصاً وخربنا ما عمرناه بسب انفعالات لم نحسن السيطرة عليها.
إقرأ أيضا لـ "الشيخ محمد الصفار"العدد 3698 - الأحد 21 أكتوبر 2012م الموافق 05 ذي الحجة 1433هـ