كيف يمكن تصور وضع لبنان بعد الإعلان عن نتائج الانتخابات النيابية وفوز فريق 14 آذار بغالبية 71 مقعدا مقابل فوز فريق 8 آذار بـ57 مقعدا؟
الصورة اللبنانية كانت مختلفة عن المشهد الإيراني إذ اتجهت القوى المتنافسة إلى اعتماد لغة المصالحة واحتواء كل تلك التداعيات التي رافقت فترة الاستعداد للمواجهة. لبنان الآن اختلف نسبيا عن فترة ما قبل الانتخابات التي استخدمت فيها قنابل دخانية واتهامات متبادلة بإنفاق المال السياسي ولغة التخويف والتخوين وغيرها من مصطلحات تنتمي إلى ثقافة الصراخ ومفردات التشهير.
الصورة اللبنانية «فولكلورية» وهي تتجه بهدوء نحو تسوية تعطي كل فريق حصته من السلطة من دون إلغاء أو استبعاد. فالديمقراطية في بلاد الأرز توافقية لا عددية وتعتمد نظرية التراضي وحق كل الأطياف في التمثيل السياسي في إطار ميثاقي. وبسبب هذا النموذج الخاص يرجح أن يستقر لبنان على قاعدة متوازنة تتطلب فضاءات جوارية وإقليمية ودولية لتعزيزها وحمايتها وإلا انكشف البلد على تموجات خارجية تزعزع أمنه ووحدته الكيانية (الطائفية والمذهبية في جوهرها السياسي).
لبنان الآن ينتظر توافقات الخارج وتوازنات الأقاليم حتى يبدأ سياسة تصحيح المعادلة الداخلية التي لا تحتمل لغة العنف. والتوافقات لا يمكن أن تنتج تسوية وطنية إلا على قاعدة معادلة إقليمية تتشارك القوى الكبرى في صوغ شروطها السياسية. لهذه الأسباب يمكن القول إن صورة لبنان ستبقى موقوفة وربما تتعرض للاهتزاز مجددا في حال فشلت المساعي الدولية لترتيب حلّ معقول للمسألة الفلسطينية وامتداداتها الجوارية والإقليمية.
التسوية النهائية في لبنان مستبعدة الآن في الأفق المنظور وخصوصا بعد حصول ذاك الشرخ في صورة إيران السياسية. فهذا الانشطار العمودي والأفقي الذي تمظهر فجأة في المشهد الإيراني قد يساهم في إعطاء ذريعة للدول الكبرى للتشكيك بنزاهة الانتخابات الرئاسية وربما استخدامها لتشكيل موقف دولي مضاد يرفع من نسبة درجات الاستنفار التي تحيط المنطقة من زواياها الأربع.
المسألة الأخرى التي تضغط على بلاد الأرز تتصل بالتطرف الإسرائيلي ورفض حكومة بنيامين نتنياهو القبول بالحد الأدنى من التراجع والانسحاب الأمر الذي قد يؤدي إلى رفع منسوب التوتر الإقليمي ويدفع القوى الكبرى إلى زيادة جرعات تدخلها في المنطقة بذريعة حماية مصالحها من مخاطر التطرف.
التسوية النهائية مستبعدة ولكن إمكانات وجود فرصة لتسوية مؤقتة مسألة واردة بعد أن استقر التوازن الداخلي على معادلة انتخابية تشير إلى وجود استعداد للتنازل والقبول بتوافق وطني يضمنه الدستور على قاعدة احترام اللعبة الديمقراطية.
التسوية المؤقتة في لبنان يمكن توقع حصولها في سياق متغيرات دولية تمثلت في سقوط «تيار المحافظين الجدد» ونهوض إدارة أميركية تقول إنها ترفض الاستمرار في مشروع التقويض المذهبي - الطائفي وإعادة تشكيل خريطة دول «الشرق الأوسط». وهذا الادعاء في حال تأكد واقعيا سيكون له وقعه السياسي على معادلة التوازن الإقليمي وما تقتضيه المعادلة الجديدة من شروط وتسويات.
العامل الدولي (التدخلي) يلعب دوره في «الشرق الأوسط» لتعديل التوازنات الإقليمية. والمعادلة الإقليمية تلعب دورها أيضا في التأثير على طبيعة التسوية المؤقتة في لبنان وتحديدا تلك الإشارات الآتية من جانب بوابة دمشق. فالبوابة السورية مهمة جغرافيا ولوجستيا في إعادة موضعة القوى المحلية وتحديد شروط قوتها أو ضعفها في الإخلال بالتوازن الأهلي وشبكة اتصالاته الداخلية.
الصورة اللبنانية تتجه الآن نحو التقارب والابتعاد الهادئ عن اللغة النارية التي تعصف بالطوائف والمذاهب وتدفعها نحو التأرجح أو التدحرج. التقارب اللبناني يعطي فكرة عن صورة إقليمية أخذت تتشكل في الأفق القريب ويرجح أن تتطور في حال أخذت تفويضا دوليا من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي. والتباعد اللبناني يعطي صورة مضادة عن مشهد إقليمي يتضارب على مسرح «الشرق الأوسط» ويتنافس على ترسيم قوته الخاصة في مناطق مختلفة من بلاد الأرز.
مراقبة المشهد اللبناني ترسل إشارات سريعة عن صورة بدأت تتركب بين واشنطن ودمشق برعاية عربية مصرية- سعودية. وهذا المشهد اللبناني المعطوف على بدء التقارب بين «فتح» و»حماس» في القاهرة واحتمال توصل الطرفين إلى تفاهمات تعيد إنتاج السلطة السياسية الفلسطينية يرفع من نسبة التفاؤل بإمكان حصول ترتيبات مؤقتة في مسرح «الشرق الأوسط».
الخطر الأساسي كان ولايزال من «إسرائيل» التي تحاول حكومتها التهرب من الاستحقاقات الدولية ودبلوماسية باراك أوباما «الذكية» وضغوط واشنطن «المرنة» على دولة تعتبر نموذجها الخاص أرقى من «الشرق الأوسط» وما يمثله من حضارات وثقافات وديانات.
لبنان الآن في وضع أفضل من مرحلة ما قبل الانتخابات النيابية. فالقوى السياسية أدركت أن قواعد اللعبة بدأت تتموضع في شروط إقليمية جديدة تعكس توازنات دولية تختلف عن تلك التي كانت مطروحة في عهد «تيار المحافظين الجدد». فانهيار إدارة جورج بوش وانكسار صورة الولايات المتحدة وتراجع مشروع واشنطن التقويضي في «الشرق الأوسط» أعاد إنتاج مواد أولية تعزز استراتيجية التساكن والتعايش والتعارف. وكلام أوباما عن «حل الدولتين» في فلسطين وعدم التفريط بالسيادة اللبنانية وقبوله بإعادة فتح باب التفاوض العلني والمباشر مع دمشق ودعوته طهران إلى الحوار الشفاف «وجها لوجه» يرسم خريطة طريق تؤكد أن واشنطن لن تقبل بتلك السياسة المزدوجة التي تديرها الخارجية الأميركية علنا من جانب والمخابرات المركزية سرا من جانب آخر.
توحيد الدبلوماسية الأميركية تحت مظلة وزارة الخارجية عطّل وظيفة الأجهزة واللوبيات وأبطل مفعول اللقاءات «الفنية» و»التقنية». وهذا التطور في الدبلوماسية الأميركية يشكل خطوة مضافة لتصديق كلام إدارة واشنطن بشأن لبنان وعدم استعداد البيت الأبيض لبيعه في سوق التفاوض أو التلاعب بتوازناته الأهلية التي قد تقوض الكيان وهويته العربية في حال تواصلت لغة التهديد والوعيد.
لبنان كما يبدو (والله أعلم) مقبل على فترة نقاهة تنعش استقراره واقتصاده في إطار تسوية مؤقتة. وبانتظار أن تتوضح صورة الموقف الدولي- الإقليمي تبقى التسوية الدائمة مؤجلة.
العدد 2478 - الجمعة 19 يونيو 2009م الموافق 25 جمادى الآخرة 1430هـ