العدد 3696 - الجمعة 19 أكتوبر 2012م الموافق 03 ذي الحجة 1433هـ

التفكير والتكفير

محمد عبدالله محمد Mohd.Abdulla [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

مازلت أتذكر أستاذنا في الثانوية وكأنه حاضرٌ أمامي الآن. فعندما كان يجيبُ طالبٌ من الطلاب بإجابة خاطئة على سؤال مطروح في الدرس، يبادر زملاؤه إلى تصحيح ما قاله بطريقة جماعية غير منظَّمَة، تتداخل فيها الأصوات المرتفعة والخافتة معاً، وكأننا في جَلبَة سوق. فيردُّ عليهم الأستاذ مبتسماً ومهدئاً: مهلاً مهلاً لا تأكلوه... إن زميلكم لم يكفر عندما أجاب خطأً!

اليوم أتذكر هذه المواقف التي بها جانبٌ من الفكاهة ونحن نعيش فعلاً حالات مشابهة (لكنها جادَّة وحقيقية) من الجَلِبَات التي تعقب ظهور إجابات يتبناها أفراد من المجتمع، وكأنها ضربٌ من الكفر واجبة الصَّد، دون إعطاء أيّ مجال لمناقشتها أو معرفة دوافعها، وإلامَ تؤشر حتى! ليس بالضرورة أن يكون تكفيراً يجبُّ الإيمان، بل هو يمتد إلى حيث التكفير الاجتماعي أيضاً.

لقد أصبحت ثقافة التكفير، تغطي مساحات واسعة من أرضنا وخطابنا ومشاعرنا وعقولنا. وحتى إذا لم ترِد كلمة «الكفر» صريحةً ضد أحد، بُطِّنَت بكلمات أخرى تمنح المعنى ذاته، مرةً تأتي مخففةً وتارة أخرى تأتي ثقيلة مُغلظةً، لكن كِلا الحالتيْن تؤديان إلى معنى واحد وهو «الكفر».

بالتأكيد، هناك قطاعات من المجتمع العربي والإسلامي باتت تتقبَّل أن تستمع إلى آراء أخرى، بسبب فَوَرَان الصورة والإعلام والانفتاح على ثقافات العالَم، لكن تلك الأصوات تبقى أصواتاً خافتة، وذات قامة مربوعة. فالصوت الأمضى والأكثر جَلجَلَة مازال هو صوت التطرف والإبعاد والإزاحة. وللأسف، جزء من أولئك الإقصائيين، يتحدثون ليل نهار عن تقبلهم للرأي والرأي الآخر، كَوْن الإسلام يحثهم على ذلك، لكنهم يمارسون قمع الرأي أكثر مما يتنفسون، وبلا حياء أو خجل.

إذا كان الجميع يعتقد ويقرّ، بأن الإنسان يجب أن يكون له مسكن وعمل وأسرة كحقوق أساسية من حقوق الحياة، فمن واجبهم أيضاً أن يؤمنوا أن ذلك الإنسان يجب أن يكون له رأي ومعتقد ودين بالطريقة التي يختارها ويعبِّر عنها، وإلاَّ أصبحت حقوقه منقوصة والعالَم قائماً على الإكراه، وبالتالي نعود إلى المربع ذاته الذي تقاتِل ضده الشعوب الحرة والمتحررة، وهو مربع الديكتاتورية.

قبل أيام، أصدر حزب التحرير الإسلامي التونسي بياناً قال فيه، بأن الرئيس التونسي المنصف المرزوقي، هو كافرٌ أو فاسقٌ أو خائن، وأن عليه أن «يلزم غرزه ويصمت»! والغريب أن كل هذه الأوصاف ذات الأوزان «النووية»، مؤذية لأمنه وحياته. فإن حَدَّدوهُ بالكفر، فسيفصِّلون في أمره هل هو كافرٌ حربي أو ذمِّي أو مستأمن. وإن نعتوه بالفسق أو الخيانة، فهو لن يخرج عن الوصف الأول ومن مآله. في حين أنه لم يقل ما يستحق الأولى ولا الثانية ولا الثالثة.

المشكلة أنهم لم يكتفوا في أوصافهم بالمسمَّيات الدينية، بل إنهم جرُّوها إلى حيث التجريم الاجتماعي. فقد زاد حزب التحرير في نعت المرزوقي على أن الأخير وقفَ موقفًا «مقرفًا مخزياً يجعله في أحسن الأحوال مثل الرويبضات الذين سبقوا وحكموا البلاد». مثل هذه الخطابات، لا تقزِّز الجماعات وأصحاب الديانات الأخرى فقط، بل هي تنفّر حتى المسلمين، الذين اعتاد الكثير منهم العيش بسماحة واشتراك اجتماعي متعدد، وليس على الزوايا الحادة.

خلال إحدى حلقات النقاش الإذاعية التي كنت أستمع إليها، قال أحد مشايخ الدِّين، إنه لا حكم في العالَم يطبق شرع الله. سبعة وخمسون دولة إسلامية وأحزابها الدينية وتجاربها جَرَى عليها ذلك الرأي، لأنهم باعتقاده لا يطبقون حكم الله. أكثر من ذلك، لم يعجب ذلك الرجل حتى حكم حركة طالبان في أفغانستان (1996 - 2001)، التي كانت تحكم بطريقة نصوصيَّة جافة! لنا أن نتخيَّل ماذا سيحلّ بالمجتمع عندما تعطَى مثل هذه النماذج من العقول فرصة التفكير والقيادة الاجتماعية.

إن مثل هذه التيارات، التي قد يلجمها المحيط المحلي والإقليمي والدولي وتعقيداته إلى حدٍّ ما عندما تأتي إلى السلطة، ستكون نيرونيَّة عندما تكون قائدةً لحركة المجتمع، وبدون قيود ولا محاسبة، حيث لا التزام سياسي ولا ثقافي، وبالتالي فإنها ستمارس وبحريةٍ، كل ما تراه مناسباً ما دامت تعتقد أنها تستطيع أن تقرأ وتفكر وتخطط وتتمنطق وتدرك أكثر من أيِّ أحد في المجتمع.

البعض يعتقد أن التسلُّط هو فقط عند أنظمة الحكم، وهذا الاعتقاد خاطئ. فالتسلُّط الاجتماعي هو أيضاً ديكتاتورية. وهذا النوع من الديكتاتوريات هو أكثر إيغالاً في القمع؛ كونه لصيقاً بزفير وشهيق الناس، وبالتالي هو مَنْ يحاسبهم على قيامهم وقعودهم. كما أنه غير مراقَبٍ من أحد، كونه السلطة الأعلى ضمن النسيج الذي يحكمه، لعوامل دينية واجتماعية.

لقد مرَّت البشرية (وبالتحديد في أوروبا) بمثل هذا الجو، وأبيْدَت في أتونه قطاعات عريضة من خيرة المفكرين والأدباء والمبدعين والمصلحين. وكان الاستسهال بالأمور، قد وصَلَ إلى حدٍّ لا يطاق. وكانت المقاصل تنصَب في الشوارع العامة، لمعاقبة أيٍّ من الخارجين عن قول وفعل الكرسي الرسولي، أو الطغمة الحاكمة، التي كانت تتذرَّع بالدفاع عن المسيحية ويسوع ومريم العذراء (ع). وعندما تخلَّص الأوروبيون من ذلك الدَّاء، انفتحت أمامهم أبواب التقدم والتطور. والحال كذلك، أمام النماذج الاجتماعية والسياسية الأخرى في الشرق الأدنى، الذي عاش هو أيضاً فاشيةً قاتلةً لسنين طويلة.

هذه هي عقدة الدول والشعوب مع أنواع شتى من التكفير السياسي والاجتماعي والديني، وأيضاً هكذا كان الخلاص من ذلك، وبالكيفية ذاتها.

إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"

العدد 3696 - الجمعة 19 أكتوبر 2012م الموافق 03 ذي الحجة 1433هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 2 | 2:53 ص

      المهم

      إذا كان الجميع يعتقد ويقرّ، بأن الإنسان يجب أن يكون له مسكن وعمل وأسرة كحقوق أساسية من حقوق الحياة، فمن واجبهم أيضاً أن يؤمنوا أن ذلك الإنسان يجب أن يكون له رأي ومعتقد ودين بالطريقة التي يختارها

اقرأ ايضاً