من جديد تفصح الإدارة الأميركية عن خطة جديدة لديها من أجل «إصلاح النظام المصرفي لتفادي أزمات مالية في المستقبل، بادخار مبالغ مالية لاستخدامها لتجاوز الأزمات، وتحمل الخسارات، وإنشاء وكالة خاصة لحماية مصالح المستهلك لتقنين عمليات الرهن وبطاقات الائتمان». تأتي هذه الاعترافات منسجمة تماما مع ما أفصح عنه الرئيس الأميركي باراك أوباما عندما أعلن عن خطته لإصلاح النظام الاقتصادي الأميركي، التي وصفها بأنها «أضخم إصلاح للنظام المالي الأميركي منذ ثلاثينيات القرن الماضي». ومن المتوقع أن تعرض الخطة على الكونغرس الأميركي بعد الإعلان عنها، وتتوقع بعض الأوساط أنها قد تواجه اعتراضات قوية، هذا في حال موافقة الكونغرس عليها.
وكما يبدو فإن إدارة أوباما بدأت تشعر بثقل التركة التي ورثتها من إدارة بوش السابقة. فالاقتصاد الأميركي كما كان يصفه أوباما قبل ستة أشهر هو «اقتصاد مريض جدا ويزداد سوءا». ولا تخفي استمرار هذا الاقتصادي في التردي، بعض المؤشرات التي تحدثت عنها بعض الأوساط الأميركية في مطلع شهر يونيو/ حزيران 2009، حين نقلت عن تقرير أصدرته وزارة العمل الأميركية، أشار إلى أن «عدد طلبات الحصول على إعانات بطالة انخفض بواقع 24 ألف طلب على أساس موسمي ليصل إلى 601 ألف طلب وهو ما يقل عن توقعات المحللين التي وضعته في السابق عند مستوى 615 ألف طلب». ومن أجل ترسيخ خطواتها على طريق التفاؤل، استعانت تلك الجهات بما ورد في تقرير آخر صدر عن وزارة التجارة الأميركية، يشير إلى «ارتفاع هو الأول منذ ثلاثة أشهر لمبيعات التجزئة في الأسواق الأميركية بفضل ارتفاع الطلب في أسواق السيارات ومحطات الوقود».
هذه المؤشرات التي قد تبث شيئا من التفاؤل تتراجع، بل تتهاوى أمام الأوضاع المتهاوية التي تفصح عنها شركات الاقراض العقاري الأميركية العملاقة من حجم «فاني مي»، التي تشرف على إدارتها بشكل مباشر اليوم الحكومة الأميركية، والتي «بلغت خسائرها للسنة المالية الماضية قرابة 60 مليار دولار، وتحتاج الى مساعدات مالية حكومية اضافية - غير تلك التي حصلت عليها وتربو على 14 مليار دولار - بنحو 15 مليار دولار». تزامن ذلك مع إعلان شركة «إيه اي جي» الأميركية للتأمين في مطلع هذا العام 2009 عن «خسائر بقيمة 61.7 مليار دولار للاشهر الثلاثة الاخيرة من العام 2008، في اكبر خسارة ربع سنوية تسجلها الشركة في تاريخها». هذه الخسارة تضاف إلى المساعدة التي حصلت عليها الشركة من الحكومة الأميركية والتي بلغت «150 مليار دولار كمساعدات مالية حكومية، (والتي اعتبرت) اكبر خطوة مساعدات تحصل عليها شركة حتى الآن».
تترافق كل هذه الخسائر مع ما أفصحت عنه شركات صناعة السيارات من طراز كرايسلر و «جي إم»، التي عرضت مصانعها للبيع لشركات أحنبية، من بينها شركات صينية، ومع تقارير حكومية رسمية أميركية تؤكد أن «الاقتصاد الأميركي انكمش خلال الربع الاخير من العام الماضي بنسبة 6.2 %، أي اكثر بكثير مما كان يتوقعه الخبراء والمعنيون، مصحوبا بتراجع قوي في الصادرات، الى جانب اقوى تراجع في الانفاق الاستهلاكي منذ 28 عاما، و(بان) الاقتصاد الاميركي نما بنسبة 1.1 %، وهو ابطأ معدل له منذ العام 2001».
هذه الحالة شبه المتهاوية للاقتصاد الأميركي تدفع الكثير من المحللين الاقتصاديين إلى البحث عن جوهر المشكلة، التي تحاول أن تحصرها، إدارة أوباما في نقص السيولة لدى الشركات المتعثرة، ولذلك نرى مبادراتها، حتى الآن تتمحور حول ضخ المزيد من السيولة - عبر المساعدات الحكومية - في خزائن تلك الشركات. لكن جوهر المشكلة، وكما يشخصه رئيس مجلس حكماء بنك الاحتياط الفيدرالي الأميركي بن بيرنانك Ben Bernanke، في مقابلته مع سكوت بيلي Scott Pelley على شبكة CBS ، في برنامج «ستون دقيقة 60 Minutes « ، ونقل تلخيصا لها موقع النبأ(www.annabaa.org) هي «المخاوف الكبيرة التي تُسيطر على الجميع داخل النظام المالي، مخاوف ناتجة من أنه ليس هناك أحد يعرف ماذا يحدث داخل النظام المالي، وبالتالي ليس لديهم أي رؤية حول المدى الزمني الذي يمكن أن يستغرقه النظام المالي حتى يسترد عافيته وفاعليته مرة أخرى، لذلك فإن الثقة هي أمر ضروري للغاية من أجل نجاح الخطط والجهود الهادفة للخروج من الأزمة الحالية».
هذه الثقة، هزتها من الجذور السياسة «الهوجاء» المصحوبة برعونة غير مسبوقة في الاستراتيجية الأميركية التي سارت عليها الإدارة الأميركية السابقة التي أخذت بها حكومة جورج بوش الإبن، والتي استنزفت كل مصادر القوة التي كان يتمتع بها الاقتصاد الأميركي، وجرت معها إلى الهاوية، اقتصاديات الدول المتحالفة معها، وعلى وجه الخصوص تلك التي انخرطت معها في حروبها الخارجية في أفغانستان ومن بعدها العراق.
أصبح على إدارة أوباما أن تبحث بروية وإمعان بين ثنايا الاقتصاد الأميركي القائم اليوم، عن تلك «القنابل الموقوتة»، والقابلة للانفجار في أية لحظة، كي تتمكن من الخروج بخطة اقتصادية تعيد للمواطن الأميركي، ومعه الاقتصادات العالمية المرتبطة، بشكل أو بآخر، بآليات الاقتصاد الأميركي الثقة التي جردته منها سياسات بوش غير المتزنة.
لقد ترنح الاقتصاد الأميركي تحت الضربات المتوالية التي وجهتها له دونما أية رحمة الإدارة السابقة، فهل تنجح إدارة أوباما في إصلاح الاعوجاج البنيوي الذي غرسته في صلب الاقتصاد الأميركي إدارة بوش؟
إقرأ أيضا لـ "عبيدلي العبيدلي"العدد 2478 - الجمعة 19 يونيو 2009م الموافق 25 جمادى الآخرة 1430هـ