العدد 2478 - الجمعة 19 يونيو 2009م الموافق 25 جمادى الآخرة 1430هـ

هيغل وصاعد الأندلسي واللقاء على تاريخ تطور الأفكار

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

كان صاعد الأندلسي (صاعد بن أحمد بن عبدالرحمن بن محمد بن صاعد التغلبي) في الأربعين من عمره حين أنجز كتابه «طبقات الأمم» وهو الكتاب الرابع والأخير من أعماله إذ توفي بعد سنتين (462 هجرية/ 1069م).

كتب صاعد الثلاثة الأولى فقدت وهي تناولت مواضيع مختلفة كعلم الرصد (حركات النجوم والكواكب) وعلم الملل والنحل (الديانات والمعتقدات والفرق الإسلامية وغير الإسلامية) وعلم التاريخ (جوامع أخبار العرب والعجم). وبقي كتابه الأخير ووضعه أصلا للتعريف بأعلام عصره حين خدم كقاضٍ لطليطلة في عهد «أمراء الطوائف».

توجه صاعد، كما ذكرنا، إلى طليطلة طلبا للدراسة والعلم في سنة 438 هجرية (1046م) وكان في الثامنة عشرة من عمره وعاش في كنف أميرها يحيى بن إسماعيل من أسرة ذي النون وتولى مسئولية القضاء فيها إلى وفاته في سن مبكرة.

كتب صاعد «طبقات الأمم» أو كما يسميه «العريف بطبقات الأمم» في العام 460 هجرية (1067م) حاول فيه استكمال دراسة أستاذه ابن حزم الظاهري عن دور الأندلس في إنتاج العلوم والتعريف بأهم الشخصيات الفكرية التي برزت في مختلف العهود الإسلامية. إلا أن دراسته اختلفت عن رسالة ابن حزم في «مراتب العلوم» فهو لم يكتفِ بأخبار الكاتب بل حاول التعريف بعصره وظروفه وبيئته. وبسبب شمولية الكتاب وضع مقدمة تحليلية للتعريف بتاريخ العلوم وتطور الأفكار واتصال الثقافات ببعضها من المشرق إلى المغرب وانتهاء بالأندلس وعصره. فجاءت دراسته تاريخية حاول من خلالها الرد على مسألتين: الأولى مجرى التطور والثانية صلة حلقات التطور ببعضها.

حتى تكون إجابات صاعد واضحة في معالمها كان لابد له من تجاوز حدود الأندلس والابتعاد عنها جغرافيا والغوص في عمق الزمن إلى عهود سابقة على ظهور الديانات السماوية. واضطر بسبب المستجدات، وتغيير خطة كتابه، أن يعيد قراءة مراتب العلوم كونيا في سياق رؤية عالمية للتطور الفكري وصولا إلى العرب وظهور الإسلام والفتوحات الكبرى.

فرضت خطة الكتاب على صاعد أن يقوم بمراجعة شاملة وسريعة لتاريخ الأفكار ودور الأمم في صنعها وصلاتها ببعضها. كذلك حاول قدر الإمكان التعريف بالأمة والتعريف بأفكارها ثم التعريف بأعلامها حتى يربط حلقات التطور في مجرى زمني هادف.

لذلك كان عليه أن يضع الإطار النظري لمشروعه ويشرح خطة التطور في سياق مرتبك أحيانا إلا أنه أعطى ما يستطيع من معلومات دمجت بين التحليل النظري وتركيب الحوادث من دون أن يدرك أنه ساهم في إنتاج نظرية تاريخية عن تطور الأفكار سيكون لها تأثيرها على أجيال لاحقة.

ويمكن التقاط «لاوعي» صاعد لمشروعه حين نلحظ استغراقه الطويل في التعريف بشخصيات عصره واختصاره لحوادث زمنه. كذلك يمكن وضع الملاحظة نفسها حين تطرّق إلى دور الأمم في تكوين الأفكار وإنتاج العلوم فهو يمرّ سريعا على الحوادث ويكتفي بالوصف لأن خطة الكتاب هي «التعريف» بأعلام الأمم على مرّ العصور وليس «التعريف» بأفكار الأمم ودور كل طبقة من الشعوب في صوغ الوعي الإنساني العام.


هيغل وفلسفته

نلاحظ مثلا أن فريديرك هيغل تجاوز هذه الثغرة حين وضع مؤلفه الضخم عن «فلسفة التاريخ» وتطور الأفكار. فالفيلسوف الألماني (1770-1831) لم يستنفد وقته في التعريف بالأعلام والأشخاص بل تركز جهده على المنظومات الفكرية وعناصرها المركبة في سياق منهجي تحليلي - تركيبي بحث عن خطة التطور وهدفها الأخير ابتداء من الشرق إلى الغرب. فكتاب هيغل ليس تعريفا محايدا كما فعل صاعد بل هو وجهة نظر تقوم على رأي منحاز لأوروبا عموما وبروسيا الجرمانية خصوصا. فهيغل قام بتأسيس نظرية شمولية حاول من خلالها رؤية «خصوصية» الشعوب وتفوق الغرب على الشرق في لحظة كانت تشهد فرنسا وألمانيا وانجلترا قفزات تطورية نوعية في نهاية القرن الثامن عشر ومطلع القرن التاسع عشر وهي الفترة التي عاشها في ظل الثورة الفرنسية واحتلال نابليون بونابرت لألمانيا ومحاولة احتلاله روسيا.

على رغم اختلاف الظروف بين حياة صاعد (أمراء الطوائف في الأندلس) وهيغل (نمو النزعة القومية التوحيدية في أوروبا وبداية المصالحة بين الدولة والدين في ألمانيا) لا يقل وعي قاضي طليطلة أهمية عن وعي أستاذ الفلسفة في جامعة برلين الذي اعتبر لاحقا «الأب الشرعي» للعديد من المدارس الفلسفية المعاصرة في أوروبا.

إلى جانب فارق الزمن بين الرجلين (صاعد عاش في النصف الأول من القرن الحادي عشر وكتب هيغل مؤلفه في الربع الأول من القرن التاسع عشر) هناك فارق السن واختلاف عمق التجربة. فصاعد عاش 42 سنة فقط بينما امتد عمر هيغل إلى 61 وهي فترة كافية لتركيز الوعي في ذهن المفكر وتطوير تجربته ومعارفه. يضاف إليها أن معظم مؤلفات هيغل متوافرة بينما ضاعت معظم مؤلفات صاعد الأمر الذي يزيد من صعوبة المقارنة بين المفكرين.

من الظلم أن نعقد مقارنة بين الرجلين لأن الغلبة الكاسحة ستكون لمصلحة هيغل. بينما يمكن أن نعقد مقارنة بين نصين ليس بهدف السجال وإنما بقصد رؤية التشابه بين خطتيهما في قراءة تاريخ تطور الأفكار والتقاط حدود الاتصال بين المنهجين خصوصا في مسائل الوصف وإطلاق الأفكار والتوصيفات العامة التي ارتجلها كل منهما في سياق بحثه العام. وحتى لا نقع في مقارنة لاعقلانية وغير تاريخية بسبب ابتعاد المسافة الزمنية بين الرجلين إلى حوالي ثمانية قرون كان لابد من اعتماد وسيلة تبعد شبهة المقارنة وتكتفي بالإشارة فقط إلى مجالات التداخل بين منظومتيهما. وبسبب تعقيد المنظومة الفلسفية لهيغل وتداخلها كان لابد من وضع أفكاره على هامش متن صاعد وتناوله التاريخي للتطور. فأفكار صاعد تعني قضايانا أكثر من فلسفة هيغل وهي أيضا سابقة عليه زمنيا.

إلى هذا التفاوت هناك خلافات في حقلي المعرفة. فصاعد بحث تطور الفلسفة في مجال التاريخ بينما بحث هيغل تطور التاريخ في مجال الفلسفة الأمر الذي يفسر اقتراب أفكارهما من دون أن يصل التقارب إلى حدّ التطابق.

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 2478 - الجمعة 19 يونيو 2009م الموافق 25 جمادى الآخرة 1430هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً