في المسلسل الكويتي المعروف «درب الزلق» يجلس الفنان الراحل خالد النفيسي متأوِّهاً أمام حانوته المكشوف المُسمَّاة بـ «فَلْج بوصالح» وهو يخاطب نجله صويلح، الذي يقوم بدور الولد الأبْلَه: أنا إللي قاهِرني إن هالفلوس هذي كلها بتصير حقك إنت! فيرد صويلح بكل سذاجة وهو فرِح مسرور بالخبر: يُبَهْ... وبعدين آنا أشتري سَبَال إمَّلَّح! فيتأوَّه والده بعد أن سَمِعَ من وَلَدِه الأبْلَه ذلك القول ضارباً كفاً بآخر من الحسرة والندَم وهو يكرِّر العبارة نفسها!: بتشتري سَبَال إمَّلَّح!
الحقيقة، أن هذا المقطع من ذلك المسلسل الكوميدي، الذي لا يمكن أن ينساه مَنْ أدرَكَه في حينه، ورغم فكاهيَّته إلاَّ أنه يحاكي فعلاً ما نعيشه من فجوة بين جيلين من العقول. جيلُ المُورِّثيْن، وجيلُ الوارثين. الفجوة ليست في أشياء عَرَضِيَّة كالإرث المالي كما في حالة صويلح وأبيه، بل هي في بؤرة الحركة الإنسانية برمتها: الأفهام والتصرفات والرؤية للأشياء، كيف تكون؟ وكيف تتشكَّل؟ ومَنْ يُشكِّلها؟ وما هي حدود الخطأ فيها؟ وكيف يُمكن اتخاذ القرارات المصيرية حولها، وسَطَ كمٍّ من التعقيد والتداخل والتعارض وسوداويَّة المشهد، التي يُشبِّه مقبلاً ويُنبِّه مُدبراً!
هذه الفجوة العقلية ما بين المُورِّثيْن والوارثين، هي ليست منحصرة في الأفراد فقط والتي عادةً ما تبقى مشكلتهم في حيِّزٍ يناسب محدوديَّتهم، بل هي تتعلق بالكيانات الأكبر، حيث المؤسسات والدول بكل أنشطتها. إنها تتعلق بوراثة الحقب لبعضها، ثم العلاقة، بين سياسات تلك الحقب ببعضها، وكيف كان التصرُّف الصائب والخاطئ فيها، والذي يلقِي بظلاله عليها بشكل مباشر. وقد كَشَفَ لنا التاريخ، كيف أن ذلك الدَّاء، قد أذابَ دولاً وشعوباً من على وجه الخارطة.
إن الحقب التي تقودها زعامات ويجرُّها قادة، تكون ممهورةً بسلوك تلك الزعامات، وأولئك القادة، وإنجازاتهم على الأرض. فبعضهم قد يرفع بلاده إلى مصافِّ الدولة الناجحة ويوحِّد هويتها ووطنيتها وأرضها وسيادتها، ويجعلها لاعباً مهماً في إحلال السلم، وآخرون قد يرمون بها إلى الحضيض. وقد زَخَرَت كتب الحكمة والتراث، بوصايا عديدة، لزعامات حكيمة، كانت في السلطة أو قريبة منها، أوصَت بها المريدين والأبناء. فقال علي بن أبي طالب: «آلة الرئاسة سِعة الصَّدر». وقال بزرجمهر: «إن الملوك تؤدب بالهجران ولا تعاقب بالحرمان»، وقال قبيصة بن ذؤيب لهشام بن عبد الملك «الرأي كله في الأناة والعجلة فيها ما فيها»... وغيرهم كُثُر.
إن موضوع وراثة الدول والحفاظ على إنجازها، وتسييره بشكل صحيح أمرٌ في غاية الأهمية. فطبيعة تطور الدول أنها تعتمد على الانتظام والوتيرة، فإذا ما خَفَتَ لديها ذلك الانتظام الذي يفضي إلى الحكم الرشيد، لصالح الانكفاء والمعالجات الفردية الخاطئة تعثَّرت مسيرتها، وأنتجَت لنفسها أعداءً من باطنها، يتحيَّنون لها في كل مورد. وعندما يكثر الأعداء، فإن النتيجة الطبيعية لذلك، أن السياسات تصبح انفعاليةً رجراجة، تجنح حتى إلى الجنون والهاوية.
إن التاريخ يحدثنا، أن الكامل ناصر الدين محمد بن الملك العادل قد ورث دولةً عظيمةً عن أبيه، لكن عِداءه الأعمى لأخيه المعظَّم، جعله يتنازل عن بيت المقدس للصليبيين لكي يتخلص من أخيه كما يُورِد المقريزي في السلوك. ويذكر التاريخ أيضاً، أن الشاه خوارزم دمَّر مُلكَه بالجشع وسوء التقدير، حتى انقضَّ عليه هَمَجُ التتار من الشمال، فجعلوه أثراً بعد عين، هو والدولة الإسلامية من أقصاها إلى أقصاها. وورث الملك لويس السادس عشر عن جدِّه لويس الخامس عشر دولة قوية في فرنسا، لكنه جعلها مُهلهَلة مترديَّة، حتى انفجرت الثورة في وجهه، وأطاحت به، وقادته هو وزوجته إلى المقصلة.
وفي قِبال ذلك يذكر لنا التاريخ، غير هذه النماذج البائسة، فذكَرَ لنا سِيَر زعماء، قادوا بلدانهم بحكمة ورويَّة ودراية بالأمور إلى برِّ الأمان. بل إن بعضهم كان قد ورِث دولةً مهلهلةً ومقسَّمة، تعيث فيها جحافل الجيوش، ويسربلها الاقتتال، فأعاد لها عافيتها ورشادها رغم مروره بأحلك الظروف وأكثرها تعقيداً. حصل ذلك في التاريخ الإسلامي والمسيحي، وربما شهِدَت أوروبا أجلى ملامح ذلك، مع استعار الحروب الأهلية والدينية، وبالتحديد في فرنسا وسويسرا.
إن الفجوة في الحكم فيما خصَّ القرارات الحصيفة وثخانة العقل وبين ضدِّها من الأمور هي أقسى ما تعانيه الدول والشعوب. فبعض القادة، الذين تسيَّدوا على كرسي الحكم، يعتقدون، أن الإمساك بالدولة، مازال يعتمد على هامش القوة المادية، في حين أن هذا الهامش، قد تغيَّر لصالح العقل المشترك، والنقاش العام، والتشاركيَّة، لكي ينتج عن ذلك مراوح تهوية للسلطة، تمنع عنها حرارة الجموح الشعبي، المتقد تحت الرماد، وغضب العامة، وتآمر الخاصة.
إن الدول التي ترث تاريخها وإنجازها وهو في وضع متماسك عليها أن تدرك، أن ذلك الإنجاز قد ماتَ في سبيله الآلاف، من الذين كدحوا من أجل تعميره وتظهيره وجعله حالة وطنية وقومية رائدة، وبالتالي فمن الجنون أن يُدمِّره الوارثون له باعتمادهم على نوازع شخصية وانفعالية، لأن ذلك لا يعني فقط تدمير التاريخ والحاضر، بل يعني أننا نضيف أعباءً على الأجيال القادمة.
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 3694 - الأربعاء 17 أكتوبر 2012م الموافق 01 ذي الحجة 1433هـ
لله درك
لقد اسهبت واستفرغت كل الوسع في النصحية والتوجيه تارة بالزجر والعبر وتارة بأحياء وبث روح العزيمة وشحذ الهمم العالية نحو السمو وغيرك كثيريين جزاك الله ألف خير غير اني يحضرني قول الحق تبارك وتعالى "ومن لم يحعل الله نورا فما له من نور" سورة النور 40
أنا أحب الفلج
ويلي على فلج ابو صالح. انا احب الفلج بس اياك أن تحب الحرية ولا تفكر بالديمقراطية.
قلم رشيق
عنوان جاذب وقلم رشيق ومضامين راقية
سلمت يداك
ثلج بوصالح
آباء يورثون لأبنائهم وأبناء يكدحون ليل نهار ليسدوا جوع آبائهم ! مفارقة غريبة .