لماذا نكره اذا كان بمقدورنا أن نحب؟ لماذا يختار المرء أن ينازع ويشاكس اذا كان في وسعه أن يصالح ويسالم؟ ولماذا يظلم الانسان أخاه الانسان وفي العدل والانصاف سعة؟
لقد ظل الانسان مشدوداً لفكرة العدل الاجتماعي منذ فجر التاريخ، ولقد شغلت العدالة فكر الفلاسفة والادباء والشعراء والانبياء والقديسين، ومجّد الادب والفكر الانسانيان «العدل» كفضيلة إنسانية عليا.
يشير المؤرخ الاميركي المعروف ويل ديورانت (ت 1981) الى أن الانسان عرف الزراعة قبل 25 ألف سنة قبل الميلاد على أبعد تقدير، وعاش كصياد فترة زمنية أطول أربعين مرة منه كفلاح يحرث الارض في اطار من الحياة المستقرة، وفي مرحلة الصيد تلك كان الانسان مولعاً بالاكتساب الى حد النهم والجشع، وما كان له إلا ان يكون كذلك؛ فمؤونته من الغذاء ليست مؤكدة ولا مضمونة، وعندما كان يصطاد طريدته كان على الاغلب يلتهمها الى أن تمتلئ معدته عن آخرها، لأن الفريسة ان لم تؤكل حالاً فسدت، وفي حالات كثيرة كان الانسان يلتهم فريسته نيئة او غير مطهوة جيدا. لقد كان الانسان في تلك الحقبة الممتدة زهاء مليون سنة ميالا للمشاكسة، مستعدا للدوام للقتال من أجل طعامه.
ولكن كيف نمت الحضارة وتشكلت الدول على رغم طبيعة الصيد المتأصلة في الانسان؟ لقد أدركت المجتمعات انه ما لم توضع ضوابط لغريزة الاكتساب عند الانسان فانها ستؤدي لا محالة الى إشاعة السرقة بالمفرق والنهب بالجملة، وتفشي الفساد السياسي والى تركز الثروة تركزاً شديداً يؤدي حتما الى وقوع الاضطرابات ونشوب الثورات. وبالتالي كان لزاماً ان تضبط هذه الغرائز بإحكام وإلا استحال أن يقوم نظام اجتماعي او حياة مشتركة، ولبقي الناس عندئذ همجاً متوحشين أو ضحايا للهمجية بين خائف ومخيف.
من هنا ظلت المجتمعات البشرية في أماكن متباعدة وفترات زمنية متقلبة تنشد تحقيق فكرة بناء مجتمع عادل ومستقر مستغلةً كل الوسائل المتاحة، وقد غصت دروب التاريخ بجثث الطامحين بحياة أفضل وفاضت به دماء شعوب وأبطال جرت بسخاء وغزارة في سبيل هذا الهدف التي تهفو له نفوس البشر بالفطرة.
غرائز مرحلة الصيد هذه أمكن ضبطها جزئياً بواسطة فرض القانون وجزئياً باتفاق عام مهزوز يدعى «الاخلاق»، وهكذا ضُبطت الدوافع الاكتسابية بتحريم السلب، وإدانة الجشع. غير ان هذه الغرائز الكامنة تتحين الفرص للظهور من جديد على سطح السلوك البشري متى وجدت الفرصة.
لفهم ظاهرة الطغيان الانساني قام عالم النفس الاجتماعي الاميركي فيليب زيمباردو في عام 1971 بتجربة شهيرة ومثيرة عرفت بتجربة «ستانفورد» والتي استهدف من ورائها فهم سيكلوجية السيطرة والانصياع، فقد قام هذا الرجل بانتخاب 24 متطوعاً من أصل 75 تمت دراستهم في اختبارات الذكاء حيث ظهروا أناساً عاديين أسوياء ثم قام بتقسيمهم الى مجموعتين على نحو عشوائي فأصبح فريق منهم مسجونين والنصف الثاني «سجانين» وزيادة في فعالية التجربة قامت الشرطة بإلقاء القبض عليهم فعصبوا عيونهم ثم أودعوا القبو.
أما السجانون الذين تلقوهم بملابسهم ونظاراتهم السوداء فكانوا يوحون بأنهم شرطة حقيقية، معهم كل الصلاحيات وفي أيديهم الهراوات مع رزمة المفاتيح وكاميرات الفيديو للمراقبة مع مسجل صوتي في كل زنزانة.
في لحظات وصولهم الاولى تم نزع ملابسهم ومسح أسمائهم حيث تحول كل واحد منهم الى رقم، ولبسوا ملابس العنابر القطنية الطويلة المهترئة بدون أي ملابس داخلية، وفي أقدامهم وضعت السلاسل، وأما أغطية الرأس فكانت جوارب نسائية. كان من المفترض ان تستمر التجربة 14 يوماً، وما حصل أن الوسط تحول الى جو مرعب خلال ثلاثة أيام، وفي اليوم السادس دق ناقوس الخطر واضطر «زيمباردو» أن يوقف التجربة تحت ضغط زميلته في العمل، باعتبار انه لا يمكن تبريره أخلاقياً باسم التجارب العلمية. أما السجانون فقد وصل بهم الأمر الى درجة حرمان المعتقلين من قضاء حاجاتهم الانسانية فغرقوا في قذارتهم او دفع البعض لممارسة اللواط، وأما المعتقلون فكانوا بين من انهار أو اقترب من حافة الجنون أو حمل الى المشفى بحالة اسعافية.
النتيجة المفزعة التي خرج بها «زيمباردو» ان ما يحكم ليس الاخلاق والفردية، بل الوسط الاجتماعي عندما تحين له الفرص للتحكم بالآخرين دون محاسبة ولا رقابة ولا وازع من ضمير أو قانون يتعامل مع البشر ككائنات متساوية في الآدمية.
ولعل هذا الطبع المتوحش الكامن في الانسان هو ما دفع بأديب مصنف عربي من القرن الرابع الهجري هو علي بن أحمد بن المرزبان (ت 366هـ) بوضع كتاب أسماه «تفضيل الكلاب على كثير ممن لبس الثياب»، جمع فيه أخبارا تكشف عن «وفاء» الكلاب وفضائلها في إشارة تضمنها عنوان الكتاب بأنها فضائل يتخلى عنها الكثير من البشر مع شديد الاسف!
إقرأ أيضا لـ "وسام السبع"العدد 3692 - الإثنين 15 أكتوبر 2012م الموافق 29 ذي القعدة 1433هـ