العدد 3691 - الأحد 14 أكتوبر 2012م الموافق 28 ذي القعدة 1433هـ

تاريخ الدعاية بين الهشّ والمُرتبك

جعفر الجمري jaffar.aljamri [at] alwasatnews.com

-

ليست السلعة كما نعرفها موضوع دعاية رئيساً. وسندخل في أشكال وإشكال تعريف السلعة. هل هي المُنْتَج الذي يستفيد منه الإنسان بشكل مباشر؟ هل هو ما يتم الترويج له ولو كان سبباً لانقراض وتعاسة الإنسان في أقل تقدير؟ بمعنى الترويج والدعاية إلى الموت والهلاك والتعاسة وما ينغّص حياة الإنسان من ألِفها إلى يائها؟ الأسلحة الفتاكة اليوم هي الأخرى سلعة من السلع؛ لكنها يمكن أن تكون سلعة تحفظ حياة وتصادر أخرى؛ أو سلعة تتعهّد وتشرف على الموت عموماً؛ بحسب الممسك بزرّها، ولها دعايتها. ولا تتأتى تلك الدعاية إلا باختراع عدو تتولى أمره الدول المصنّعة للسلاح. مثل ذلك العدو يتم الترويج له ولقوّته ولو كان بالكاد يدافع عن حدوده.

الدعاية أو «بروباغندا» تعني نصاً أو صورة أو صوتاً أو موقفاً يتم إعداده لهدف وغرض معيّن من بينها التوجيه أو التأثير في الأفكار والقيم بدءاً بالقيم الاستهلاكية وليس انتهاء بالعقائد؛ وليس بالضرورة هنا أن تكون عقائد دينية كما هو مصطلح عليها. عقيدة مجموعة في نظام أو مجموعة قيم يراد زحزحتها أو استمالتها ضمن وجهة أو هدف معين. قد يكون قصيراً أو طويل المدى. المهم أن تحرّك تلك الدعاية ثابتاً وتروّج لأفكار أو قيم أو سلعة يراد لها أن تروج وتنتشر وتمتد.

هنالك من أعاد مفهوم «الدعاية» إلى الفيلسوف اليوناني أرسطو؛ وتحديداً في كتابه «الخطابة»، ذلك ما أشار إليه المنظّر الإعلامي الألماني كلاوس ميرتن؛ بحسب ما أورده الكاتب برهان شاوي.

المصطلح نفسه و «في اللغات الأوروبية - بحسب شاوي - يعود إلى فترة حرب الثلاثين عاماً التي شهدتها أوروبا، وألمانيا بالتحديد؛ أي ما بين الأعوام 1618 - 1648، وكما يسميها فريدريك أنغلز (حرب الفلاحين)، والتي حدثت نتيجة الانشقاق التاريخي في الكنسية الكاثوليكية بتمرّد مارتن لوثر على الكنيسة محاولاً إصلاحها دينياً ودنيوياً؛ ما أدّى إلى نشوب الحرب بين الشمال والجنوب في أوروبا».

الدعاية المغرضة اليوم توسّعت أنشطتها وصورها وموضوعاتها ومجالاتها. هي لا تُعنى بالتأكيد بمزيل العرق أو مزيل البقع أو الحموضة في المعدة. تاخمتْ ودخلت حدوداً ومناطق غاية في الخطورة. نحن هنا وللمرة الثانية أيضاً وضمن مجال آخر لا نتحدث عن توترات وحروب دعائية بين دول منغمسة في حال العداء. ذلك أمرٌ لا مفاجأة ولا صدمة فيه حال حدوثه وفي صور ربما لا تخطر على ذهن ومخيّلة أي منا. والأمر في الحال تلك - كما أشرت - يحدث بين أجهزة إعلام دعائي لدولة مقابل أجهزة إعلام دعائي لدولة أخرى؛ أو دول مقابل دول؛ لكن ما هو مبتكر وجديد ولن تجد له شبيهاً أو قريباً، أن تعمد دول تعاني من مشكلات وأزمات ومآزق وملفات خطيرة لم يعد بالإمكان الالتفاف عليها أو تسويفها لعقود كما سُوّفتْ لعقود، أهون تلك الملفات الفساد، ولا شيء من الفساد يمكن أن يكون هيّناًً، وأعظمها الاستهانة وسفح كرامة الإنسان. تعمد تلك الدول إلى تبنّي تلك المحاولة «الدعاية الرخيصة» وتجلب لها الخبراء في كثير من الأحيان، في محاولة يائسة لإعادة صوغ الوعي وتوجيهه وإدارته وتشكيله وحرْفه وتغييره عن مساره لخطف انتباه الناس وإلهائهم عن حقيقة تلك المشكلات والأزمات والمآزق على الأرض؛ بضخّ أكبر كمية من التشويه والافتراء والتحريف وتغيير المواقف والكَلِم عن مواضعه ضمن بيئة واحدة وحدود جغرافية واحدة وتجانس كان قائماً قبل تبني خطة الهروب من المشكلات، استجلاباً لشروخ وتعميقاً لها، وفي مفارقة يمكن الوقوف عليها بالرجوع إلى وثائق ومسوّدات لن تجد لها شبيهاً حتى أيام استعمار تلك الدول وخضوعها لهيمنة خارجية؛ إذ فشل فيها الأخير بامتياز حين حاول النيْل من حال التجانس بين مكونات البلاد التي استعمرها.

مثل تلك الدعاية أو «البروباغندا» المغْرضة بسذاجة يمكن كشف هشاشتها ووهنها؛ لن تستطيع على المدى البعيد تحقيق أي من أهدافها في حال تم التصدي لها وكشف زيفها بأدوات وشواهد مقنعة تتحرى الصدقية وتنأى بنفسها عن تبني الأساليب الهابطة نفسها أخذاً بأدوات العصر وإمكاناته التي باتت متوافرة ولم تعد حكْرا على الدول كما كان الأمر قبل سنوات؛ لأنها (الدعاية المغرضة) باتت مكشوفة وساذجة من جهة ولا علاقة لها بالحرص على أي طرف من أطراف الاستهداف ومحاولة حرْف وتغيير القناعات؛ واستبدالها بمحاولة فرْض بعبع لا وجود له إلا في رأسها وتهافتها على مصالحها في صورة محضة. لا تحرص إلا على مصلحتها وتأبيد ممارساتها وواقعها.

تلك مسألة لا يمكن لأي كان أن يماري في نتائجها النهائية ومحصّلاتها إلا ذو حظ عظيم من السذاجة أو المراهقة أو التخبّط بشكل أدق.

كأن الشعوب بمثل تلك الرهانات الخاسرة في نهاية المطاف على مصائرها، مساحة ومختبر لتجريب كل ذي عقدة. كأن الشعوب بممارسات كتلك تُختطف من المستقر من حياتها إلى المضطرب ومن المتجانس والمؤتلف إلى المتنافر والمتيقظ استعداداً لتصفيات وزوال مقبل. كأنها تُختطف من حياتها عموماً آلاف المرات لتصبح وقوداً لنار أطراف تبتغي من ورائها دفء استقرارها المُتَوَهم ولو على حساب هلاك ملايين.

عنوان المقال لم يذهب بعيداً عمّا تم التطرق إليه. ثمة هشاشة من حيث مبرّرات واستدعاء وتمثّل تلك الدعاية وتوقيتها والأطراف المكوّنة والراسمة لخريطتها وتبنّيها ضمن حدود هي خارج حيز ومدى الأخلاق. وثمة ارتباك بتخبّط صيغ وأشكال وصور وتوقيت وأمكنة تلك الدعاية؛ من دون أن ننسى انتخاب أطرافها في الوقت نفسه!

في النهاية، دعاية كتلك سترتدّ على أطرافها إن آجلاً أو عاجلاً. لا يمكن استغفال الزمن وبشر الزمن. الزمن اليوم لم يعد الزمن بالأمس، وإنسان اليوم لم يعد إنسان الأمس، كما هو الأمر مع أدوات كشف الكذب بالأمس التي لم تعد هي الأدوات نفسها. سترتد على أطرافها وتقدم صورتهم وحقيقة أخلاقهم وطريقة الحياة التي يريدون لها أن تسود. ذلك أمر سيكشفه ويجابهه الزمن وإنسان الزمن في يقظته.

إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"

العدد 3691 - الأحد 14 أكتوبر 2012م الموافق 28 ذي القعدة 1433هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 2 | 1:28 ص

      طارت الطيور

      وهم يقولون يا استاذ على ما يكشف الزمن دعايتهم وزيفهم يصير خير ولكل حادث حينها حديث اما الآن فعلي قول الاخوة المصريين (حوش يا حواش)

    • زائر 1 | 1:27 ص

      طارت الطيور

      وهم يقولون يا استاذ على ما يكشف الزمن دعايتهم وزيفهم يصير خير ولكل حادث حينها حديث اما الآن فعلي قول الاخوة المصريين (حوش يا حواش)

اقرأ ايضاً