رأيان يحكمان التطوُّرات على الحدود السورية التركية. الأول سوري، يتهم فيه أنقرة، بأنها تريد حفراً في الجدار الحدودي لسورية، بغية إشغال الجيش (والاستخبارات السورية) بجبهة جديدة على الحدود، بهدف تكثير الجبهات أمامه، فينكشف ظهره في مناطق حلب وريفها، وحمص والريف الدمشقي، وبقية المناطق الملتهبة من درعا حتى القامشلي أمام المعارضة المسلحة.

الرأي الثاني تركي، يتهم فيه دمشق، بأنها تريد توريط الجيش التركي، وجرِّه إلى الحدود، لكسر برتوكول أضنة، ومن ثم جعله يقاتل جبهتيْن: سورية وكردية. كما أن دمشق تريد إشغال العالَم بمعركة بينية مباشرة، لتخفيف الضغط على عمليات الجيش السوري في الداخل، وأيضاً توسيع المشكلة السورية لتكون ملفاً إقليميّاً متعدد الأطراف، ليصاب الأمن التركي في مقتل.

الحقيقة التي يجب إدراكها بيْن هذين الرأيين، أنه ومهما كانت بوصلتهما، فإنهما يحملان دلالات معقدة تحتاج إلى تفكيك. ولأنها كذلك؛ فإننا في هذا المقال على الأقل، سنفترض صوابيَّة الرأي التركي، لنقوم بالبحث في الأهداف السورية من ذلك التصعيد، على أن نخصص مقالاً آخر نفترض فيه العكس. هنا، وبناءً على الفرضية الأولى، فإننا نعتقد أن السوريين يهدفون من ذلك التصعيد مع تركيا إلى تحقيق الأمور الآتية:

تحويل المعركة من معركة داخلية بين نظام سياسي ومعارضة مسلحة، إلى معركة خارجية فعليَّة ومباشرة، لكي يستطيع النظام السوري، تثوير الغريزة القومية لدى السوريين، باعتبار أن ما يجري هو حرب تركية (عثمانية) - سورية (عربية)، فيُحرَج بذلك حَمَلَة السلاح في الداخل، وينكشف غطاؤهم الشرعي. ولا نريد الاسترسال هنا، لأننا تحدثنا عن هذا الأمر بشيء من التفصيل في مقال سابق يمكن الرجوع إليه (العدد 3682).

تريد دمشق من ذلك التصعيد، تغيير الضوء الأصفر الذي منحته للأكراد المتمثلين في حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي السوري بعد إرخاء قبضتها عن مناطقهم في الشمال إلى ضوء أخضر لتحرُّكهم العسكري ضد أنقرة مع اشتعال المناطق الجنوبية الشرقية التركية. فعندما يتم فتح جبهة جديدة بين سورية وتركيا، وتتحرك كتلة كردية لا يستهان بها، هي بالأساس ذات وشيجة قوية مع حزب العمَّال الكردستاني (PKK)، يصبح أمام تركيا خط هلالي خطير للأكراد يبدأ من العراق وجنوب شرق تركيا، وصولاً إلى الأراضي السورية. وهو ما سيزيد من المشكلة الأمنية لأنقرة، وخصوصاً أن العمليات التي قام بها الأكراد خلال شهر واحد، كلفت الجيش التركي زهاء خمسمئة قتيل.

تدرك دمشق، أن تركيا خَسَرَت تريليون ونصف تريليون دولار على حربها ضد حزب العمال الكردستاني منذ الثمانينات. وإذا ما فتِحَت جبهة حرب جديدة، أمام الجيش التركي؛ فإن تلك الخسائر ستزداد، الأمر الذي سيؤثر على عملية التنمية والبنية الاقتصادية للدولة التركية، وهو ما سينعكس سلباً على الأداء الحكومي، وبالتالي على شعبية حزب العدالة والتنمية، وخصوصاً أن حزب الشعب التركي يحظى بأزيد من 129 مقعداً في البرلمان، الأمر الذي قد يجعله بديلاً جديّاً لحزب أردوغان، علماً بأن الأول لديه مواقف معتدلة من دمشق.

يريد السوريون ضرب «بروتوكول أضنة» الموقع بين الجانبين في العام 1998، والذي يمنع بموجبه أيّ تواجد عسكري في المنطقة الحدودية المشتركة، فضلاً عن ضبط الحدود. ودمشق تريد من ذلك، إبداء رد فعل دبلوماسي قاس قريب من الاحتراب، على عدم التزام تركيا بذلك البروتوكول من جانب واحد. وعندما يتحقق هذا التمييع لذلك البروتوكول، يقتضي موضوع السيادة، والموضوع الأمني، ترتيبات جديدة، ربما بموجبها تريد دمشق غرز العديد من البنود التي من خلالها قد تحمي حدودها من جديد، وخصوصاً أن ظروف توقيعها كانت بسبب المشكلة الكردية، والتي كانت حينها دمشق، الطرف الأضعف بعد حشد أنقرة أعداداً كبيرة من قواتها على جانب الحدود. كما أن ضرب هذا الاتفاق سيعني إدخال مصر وإيران في الموضوع، وخصوصاً أن هذا الاتفاق تمَّ برعاية مصرية إيرانية آنذاك.

أرادت سورية بذلك تطبيق نظرية كيسنجر التي تقول «توسيع المشكلة لحلها». فهي تريد الاقتراب من مُحدَّدات تاريخية كمعاهد سيفر للعام 1920 التي اعترفت بموجبها تركيا بعروبة لواء الاسكندرون وقيليقية. وهي بذلك (أي دمشق) ترد على التلميحات التركية، عن اعتبار حَلَب، عمقاً للأمن التركي. لذلك؛ فإن تحريك قوات على الحدود، سيعني نفضاً لغبار التاريخ المتسالَم عليه إقليميّاً ودوليّاً، وبالتحديد لمنطقة لواء الاسكندرون، الذي لا يبعد عن قاعدة إنجرليك الجوية التركية سوى اثني عشر كيلومتراً، وهي القاعدة التي يستخدمها حلف شمال الأطلسي، وأيضاً الوصول إلى أهم الموانئ التركية باللواء لإقلاق الحركة التجارية فيه. كما أن سورية، التي لا تعترف بضمِّ اللواء إلى تركيا منذ 29 نوفمبر/ تشرين الثاني من العام 1939، تريد تحريك هذا الملف عرقيّاً وأمنيّاً، مستفيدةً من وجود ثلاثة عشر ألفاً من العلويين فيه، وثمانية آلاف من الأرمن واليونانيين الأرثوذكس (وهم جميعاً خصوم لتركيا)، أي ما يقارب نصف سكان اللواء. وقد تواردت أنباء منذ أشهر، إلى أن جيوباً مسلحة بدأت تظهر في الاسكندورن بدعم من الاستخبارات السورية، تنادي بالانفصال عن تركيا، والانضمام إلى الأراضي السورية.

يهدف السوريون من ذلك التصعيد، إلى دفع تركيا، لدفع ضريبة مساندتها للجيش السوري الحر، وتحوُّلها إلى ممر للسلاح، عبر ضرب خاصرة الأمن القومي التركي، سواءً من خلال جعل منطقة هاتاي ميتةً اقتصاديّاً بإقفال الحدود، أو عبر الورقة الكردية والاسكندرونية أو إقلاق الموانئ والقواعد العسكرية. وهو أمرٌ تعتقد دمشق، أنه سيدفع تركيا إلى تخفيف دعمها للمعارضة السورية المسلحة، كما حدث قبل أسابيع، عندما نقل الجيش الحر مركز عملياته من داخل تركيا إلى داخل سورية، وبتراجع القيادة التركية عن مسألة إسقاط النظام السوري برموزه كافة، بقبولها الآن نائب الرئيس السوري فاروق الشرع رئيساً لحكومة انتقالية مقبلة.

في كلِّ الأحوال، فإن التصعيد السوري التركي على الحدود أمرٌ معقد وخطير في الوقت نفسه، وخصوصاً أنه يلامس ملفات جوهرية في العلاقة بين البلدين، وأيضاً ملفات إقليمية حساسة، تتداخل فيها الحالة العرقية والطائفية والأمنية، من روسيا (مروراً بالبلدين) وحتى اليونان. لكن وكما قال الفيلسوف ابن سينا «المستعد للشيء تكفيه أضعف أسبابه».