كل معارض عربي هو خائنٌ، وتبعاً للدولة التي ينتمي إليها سيُوصم بالتآمر والتخابر إما لدولة جارة أو دولة تعثّر فيها اتفاق اقتصادي لصالح مسئول، فإذا كنت صومالياً فأنت مرتبط بأجندة خارجية وعميل وتتخابر مع إريتريا، وأيام السادات أنت على ارتباط بـ «الواد المجنون بتاع ليبيا» وفترة حسني مبارك أنت عميل لدولة يكرهها بضربة حظ، وإذا كنت مغربياً فأنت على علاقة بشذاذ الآفاق وتنظيمهم «جبهة البوليساريو» وإذا كنت موريتانياً أيام المخلوع معاوية ولد سيدي أحمد الطايع فأنت عميل ومتآمر على فخامته وليس بالضرورة أن توْجد دولة تكون موضوع اتهام. يكفي أن ملامحك لا تعجبه وصوتك أجشّ. وإذا كنت يمنياً أيام صاحب الـ 33 عاماً فأنت من فلول نظام الحزب الاشتراكي الذي شرب المقلب واستُدرج إلى وحدة هشّة كان يرمي من ورائها، القائد الملهم، ارتفاع مؤشر ثروته والذين سرقوا البلاد طولاً وعرضاً. وإذا كنت جزائرياً فأنت على تواصل استخباراتي، وتهمة الخيانة العظمى جاهزة في دوائر القرار من قبْل أن تبْدر منك تحية لمغربي رصدت وضعكما المخابرات الجزائرية، والعكس صحيح، في إحدى عواصم العالم. وإذا كنت سورياً وعلى أيام صدام حسين فأنت تتسلم أجرة تخابرك بالدينار العراقي المنهار والدولار العدو الأول للأمة العربية والإسلامية، ذلك الذي يغرفون ثروات الأمة منه في أرصدة لن تطولها شياطين الإنس والجن. وإذا كنت عراقياً فالقائمة تطول في اتهامك بالتخابر من قرية منسيّة في الخليج إلى نجْع منسيّ في إحدى المحافظات المصرية، وإذا كنت أردنياً فبحسب ملف الغلاء وتداعياته وملف الفساد وتراكماته وملف أزمة المازوت وتبعاته، وملف الحسابات المعقدة لكتل الإسلام السياسي أو كتل التماهي مع الاستسلام، حينها لكل حادث حديث. وإذا كنت جيبوتياً ستلفق لك تهمة أنك تتخابر مع أبالسة الجن وهناك أدلة بالصوت والصورة ولكل حادث حديث ولن يتم كشف الأدلة حفاظاً على سرية التحقيقات وسير العدالة! وإذا كنت لبنانياً ما قبل الطائف فأنت عميل للفلسطينيين؛ وخصوصاً الذين تم جزرهم في صبرا وشاتيلا! وإذا كنت بعد الطائف فالمسألة ستطول؛ إذ ربما تقوم القيامة ولن يستطيع طرف تعداد الجهات التي أنت عميل وتتخابر معها!
وإذا كنت عراقياً أيام صدام حسين فأنت عميل لإيران فترة الحرب وعميل متحوّل للكويت بعد التحرير وفوق «البيعة» أنت عميل كوني لكل دول العالم من نواكشوط مروراً بنيروبي وليس انتهاء بقرية هي مركز أبحاث في القطب الشمالي!
وإذا كنت في تونس عهد زين العابدين بن علي، الخائن في الدرجة الأولى هو ذلك الذي يمكن أن يجادل «كريمته» أو يجادله في النسبة المئوية إذا كان صاحب أعمال ومالك تجارة، لا وقت لديه من فرط الانشغال بتلك النسب بمن يراهم من الرعاع والسوقيين ممن لم يحسن الأهل تربيتهم فيتجرأون على وليّ الأمر ولو بشيء من الزفير الذي لابد لأي منا أن يقوم به وإلا اختنق ووُري الثرى.
في ليبيا المهووس، معمّر القذافي كانت البلاد كلها مجموعة من الخونة؛ حتى أولئك الذين يخرجون لاستقباله في جولاته الليلة حين يشعر بأرق، على رغم الصورة التي تقدّمها الكاميرا باعتباره محبوب الجماهير وولي نعمتها وسبب تنفسها! فقط الذين هم ضمن دائرة استيلائه وشذوذه محل ثقة؛ ومتقلبة أيضاً!
جزر القُمُر لوفرة الانقلابات فيها بات المواطن في منأى عن تلك التهم الجاهزة. الخونة هم العسكر فيما بينهم، الذين يحاولون جلب مزيد من المرتزقة الفرنسيين لتثبيت ضابط مغمور مرة ورئيس لا حول ولا قوة له مرة أخرى. الخونة هم العسكر هناك، ولكن لا أحد يجرؤ على توجيه التهمة لهم؛ وخصوصاً ممن هم مشغولون بعذابهم اليومي. الاستقرار النادر الذي نعمتْ به جزر القُمُر في السنوات الأخيرة ربما يدفعها إلى الدخول في عضوية نادي مخترعي «الخَوَنة»!. الفراغ أحياناً يفتح شهيَّة الترصّد وجرّ الأبرياء جرّاً إلى ما لا علاقة لهم به في كثير من الأحيان. حتى ولو كانت لهم علاقة به فلن يتعدّى جزءاً من حقهم المؤجّل والذي تم تسويفه لعقود.
في منطقتنا الأمر جرعته في ازدياد تنفسك، وسيْرك بشكل مستقيم من دون عرج، وملامحك الوسيمة أحياناً وأنت من عائلة أوضاعها المعيشية قبيحة. بُنْيَتك الجسدية وأكلك شحيح قد يكون أحد أسباب ارتباطك بجهات وأجندات خارجية. أما إذا ركبْتَ أو حتى تعاطفتَ مع ما يتكرر في الإعلام الوطني: «ما يسمّى بالربيع العربي» ورفعت صوتك ودخلت في حال من محاولة الانتحار بخروجك إلى الشارع وأنت أعزل إلا من حقك في الحياة بشرف وكرامة وقيمة فأنت على ارتباط بجهات وأجندات خارجية يصل مداها إلى المريخ وعطارد والمشتري وبلوتو وحتى كوكب القردة!
كل ذلك قبل الربيع العربي. الربيع العربي خلق حالاً من «أم الديفان» لدى معظم الأنظمة العربية. كلها نشطتْ لديها غُدد توهّم واصطناع المؤامرة. بات المواطن العربي الذي يشعر بحقه في الحياة الكريمة مشروع خائن وعميل ومرتبطاً بأجندات خارجية. ولا أدري لماذا التركيز وتكرار لازمة الأجندات الخارجية ونسيان الأجندات والعَمَالة لحال الخلل والفساد والنهب لدى بعضهم في الداخل؟ كأن الأمور كلها «سمْن على عسل»، والمواطن لا ينقصه شيء البتة، ما ينقصه هو أن يضمن مستقبله بقبر لا تمتد إليه هيئات وأجهزة التسجيل العقاري!
قبل الربيع العربي بعقود كان المُعارض من غير أداة حماية ترصد ما يتعرّض له. آلة كشف الانتهاكات وفضحها كانت في مراحلها البدائية وبالكاد تخدم الدول التي ابتكرتها من باب تمضية الفراغ والتطفل هناك. لا تجاوز صارخاً لحقوق الإنسان يستدعي وقتها التفكير في أدوات كشف أكثر حسماً وإفحاماً!
في جغرافياتنا كان المُعارض يخرج إلى عمله - إذا توافر له عمل أساساً - ولا علاقة له بعدها بالطريق التي سلكها سيختفي بقدرة من يملكون القدرة في صورها المألوفة! وتسجّل القضية ضد مجهول معلوم!
أعلم أن بعض الصور تلك لم تتغير في 2012؛ على رغم كل إمكانات الرصْد والتوثيق والفضح؛ لكن الصورة تظل أقل من مثيلاتها وقتذاك، ومع ذلك تظل الممارسة نشطة وفي تداول واستنساخ.
بعد الربيع العربي كل صوت احتجاج ولو بالتي هي أحسن، وفي سلمية لا يمكن الالتفاف عليها بحضور آلة الرصد الحديثة اليوم، يظل مشروع انقلاب على الدولة والاستقرار والرفاهية التي نقرأها في كتب المواطنة ونسمع عنها في أجهزة الإعلام؛ ولكننا على الأرض نرى ما بعد النقيض. نرى ما لا يدلّ على الحياة بمعناها اللائق والجدير بسيد الكائنات (الإنسان).
أصبح الربيع العربي بالنسبة إلى بعض الأنظمة موسم تفريخ وطلوع النبْت الشيطاني الذي يهدّد الجنس البشري وازدهاره واستقراره، في أوطان مازال بعض مواطنيها يقتاتون على جمع النفايات والمواد القابلة للتدوير كي يستطيعوا دفع حياتهم ولو باليسير من الإمكانات والوافر من الإهانات والغصص وحسرة ودموع ما قبل النوم.
كأنَّ الربيع العربي «موسم الهجرة إلى الخيانة»؛ مع الاعتذار للراحل الروائي السوداني الطيب صالح لمحاكاة عنوان روايته «موسم الهجرة إلى الشمال».
إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"العدد 3687 - الأربعاء 10 أكتوبر 2012م الموافق 24 ذي القعدة 1433هـ
ربيع الشعوب
ستاذ جعفر وكأنك ضربت على جرح الوطن, الذي يتهم فيه نصف الشعب بأنه خائن, سلمت اناملك وبنات افكارك
نعلم ذلك
الاستاذ