قبل نحو خمسين عاماً أتيحت لي رؤية تمثال الرحمة الشهير لمايكل أنجلو في كنيسة سانت بيتر في روما، حيث تظهر السيدة العذراء وهي تحمل جسد السيد المسيح بعد صلبه، وهو تمثال رائع الجمال بقدر ما هو ذائع الصيت، ولكني أذكر أنني في ذلك الوقت (1958) استطعت أن أقترب من التمثال لأتأمله جيداً، فلم يكن بيني وبينه غير مسافة خطوة أو خطوتين. ثم مرت السنوات وكنت في روما مرة أخرى منذ سنوات قليلة، فذهبت ألقي نظرة أخرى على التمثال فإذا بي أجده محاطاً بسياج منيع يحميه من صفوف الزائرين الذين يأتون إليه زرافات ووحداناً لإلقاء نظرة عليه، فلم أستطع أن أقترب من التمثال لأكثر من عشرة أو عشرين متراً . كنت واحداً من أرستقراطية العالم منذ نحو خمسين عاماً فصرت الآن واحداً من الجماهير الغفيرة.
القصة الآنفة يرويها الأكاديمي المصري المعروف جلال أمين في كتاب طريف ومشوق بهذا العنوان «عصر الجماهير الغفيرة»، يتناول فيه جوانب من تطور المجتمع المصري، ويجوز بكثير من الاطمئنان تعميم نظرته على حدود العالم العربي على اتساعه، خلال الخمسين سنة الأخيرة في مجالات الصحافة، الاقتصاد، الثقافة، التلفزيون، السوبرماركت والسياحة، الأزياء والحب والعلاقة بين الدين والدنيا، ويطفح الكتاب بالإشارات والنظرات الطريفة.
ويشير أستاذ الاقتصاد بالجامعة الأميركية في القاهرة إلى أن ظاهرة الجماهير الغفيرة ارتبطت بتزايد الكثافة السكانية في العالم أجمع، وظاهرة الجماهير الغفيرة هذه لها منافعها كما أن لها مضارها أيضاً، فبقدر ما ضربت الصفوة ولقنت درساً في التواضع والتزام الحدود، تحررت الجماهير الغفيرة وحصلت على ما كانت محرومة منه من حقوق. وربما لم نعد الآن أسعد حقاً مما كنا فيه منذ خمسين عاماً ولكن من المؤكد أن ما كان مقصوراً على القلة أصبح في متناول كثيرين.
كان جمال عبدالناصر (ت 1970) كثيراً ما يصف المجتمع المصري كما كان قبل ثورة 1952 بأنه مجتمع «النصف بالمئة»، وكان يقصد بهذا أنه في السياسة والاقتصاد والحياة الاجتماعية كانت نسبة المصريين الذين يسيطرون على مصر وينفردون باتخاذ القرارات فيها ويتمتعون بمزاياها، لا تزيد على هذه النسبة، بينما كان بقية المصريين مهمشين.
بأكثر من ثماني سنوات كتب أمين كتابه قبل أن يضرم بائع خضراوات وفواكه النار في نفسه أمام مقر ولاية سيدي بوزيد في تونس احتجاجاً على مصادرة السلطات البلدية في مدينة سيدي بو زيد لعربته، وللتنديد برفض سلطات المحافظة قبول شكوى أراد تقديمها في حق شرطية صفعته أمام الملأ وقالت له: «ارحل» (قالتها بالفرنسية)، فأصبحت هذه الكلمة أبرز شعارات الثورات العربية المتلاحقة والتي نجحت في الإطاحة بأربع دكتاتوريات عربية. إنها ثورة الجماهير الغفيرة.
كان العالم العربي يمر منذ خمسينيات القرن الماضي بعدد من المفارقات والتناقضات السياسية، وكانت هناك تيارات سياسية وعقائدية تسعى للتأثير على شعوب المنطقة وتثويرها من أجل تغيير أنظمة الحكم في عدد من الدول العربية. وقد ترافق اشتداد زخم هذه التيارات مع صحوة قومية شمولية وفوراناً للمد القومي العربي في مصر والجزائر وتونس وسورية وغيرها. وقد اتسمت هذه الفترة بصعود النخب العسكرية التي نجحت في الوصول إلى الحكم عبر انقلابات لم تخفق في دحر بعض الأنظمة العربية، وكانت شعوب العالم العربي تتعرض لتأثير فكري عميق شاركت فيه أحزاب وتيارات ثورية يسارية، شيوعية وماركسية وبعثية بالتوازي مع تأثيرات بعض الإذاعات وأجهزة الإعلام العربي.
ولم تكن البحرين بمعزل عن تأثير هذه الحركات والتيارات السياسية، فقد ساهمت بعض المجموعات الطلابية من شباب البحرين الذين درسوا في الخارج والهيئات التعليمية الوافدة من دول عربية، بنشر أفكار وعقائديات التنظيمات الاشتراكية والشيوعية بمختلف اتجاهاتها، وبدأت تشكل في البحرين خلايا سرية تدار في الخارج بسبب حظر العمل السياسي العلني في الداخل، وقد أخذت تعمل على نشر مفاهيمها وأفكارها بين أوساط الطبقة العاملة والمتوسطة.
وفي الخارج تأثر بعض الذين كانوا يدرسون في بيروت إلى حد بعيد بحزب البعث الاشتراكي، وأصبح بعضهم أعضاءً بارزين في الحزب خصوصاً في نطاق الجامعة الأمريكية في بيروت، وكانوا لسان الحزب الناقد لحكومة البحرين. بينما وجدت حركة القوميين العرب أنصاراً متحمسين لها بين صفوف الطلبة البحرينيين في كل من القاهرة وبيروت، حتى أن بعضهم أصبحوا أعضاء قياديين في هذه الحركة على المستوى القومي. كما وجدت مجلة «الحرية» الناطقة باسم حركة القوميين العرب سوقاً رائجة لها في البحرين في تلك الفترة، كما استطاع الشيوعيون أيضاً كسب بعض الأنصار في البحرين وكانت بعض النوادي مثل «نادي الفجر» في المنامة و «نادي النور» مركزاً للنشاط الشيوعي في أواخر الخمسينات ومطلع الستينات. وعلى الرغم أن الشيوعيين كانوا أقل الحركات عدداً، إلا أنهم كانوا الفئة الأكثر نشاطاً داخل وخارج البحرين قبل أن تميل الكفة لصالح الإسلاميين بدءاً من الثمانينات.
الحراك الذي نشهده في البحرين اليوم، هو وليد كل هذا التراث الوطني الطويل في النضال، غير أن أبرز سمات المشهد الحالي هو تلاشي الحدود السياسية الفاصلة في الرؤى بين كل هذه التنظيمات، وحصول إجماع ناجز على القضايا الوطنية التي تسعى لها كل القوى الوطنية وبآليات متشابهة إلى حد بعيد، ناهيك عن خروج العمل السياسي من إطار التنظيم المغلق إلى الفضاء المفتوح، لتصبح بعدها السياسة حالة ومزاجاً تخضع له الجماهير الغفيرة وليس مجرد نقاش للتثقيف السياسي بعيد الصلة عن الواقع تقوم به خلية حزبية صغيرة.
يذكر إريك هوفر (ت 1983) في كتابه «المؤمن الصادق... أفكار حول طبيعة الحركات الجماهيرية»، أن الجزء الثابت من أي أمة هو وسطها، الذين يتكونون من المواطنين العاديين الطيبين، الذين يقومون بأعمالهم في المدن والأرياف، كثيراً ما تتحكم فيه أقليتان، الصفوة من طرف، والغوغاء من طرف آخر. ويشير إلى أن المنبوذين والمهمشين هم المادة الخام التي يصنع منها مستقبل الأمة، وأن الأمة التي تخلو من الغوغاء هي التي تتمتع بالنظام والسلام والاطمئنان، إلا أنها أمة تفتقر إلى «خميرة التغيير». ولم تكن سخريةً من السخريات أن المنبوذين في بلاد أوروبا هم الذين عبروا المحيط لبناء مجتمع جديد في القارة الأميركية الجديدة، بل كان هذا هو الشيء الطبيعي.
في عصر الجماهير الغفيرة، من الصعوبة إقناع الناس أن في أيديهم «جوهرة» في حين أنها في واقع الأمر «جوزة». والجماهير الغفيرة تريد «الجوهرة»... وتلك هي سنة التاريخ.
إقرأ أيضا لـ "وسام السبع"العدد 3685 - الإثنين 08 أكتوبر 2012م الموافق 22 ذي القعدة 1433هـ
تحليل اجتماعي ..
في عصر الجماهير الغفيرة، من الصعوبة إقناع الناس أن في أيديهم «جوهرة» في حين أنها في واقع الأمر «جوزة». والجماهير الغفيرة تريد «الجوهرة»... وتلك هي سنة التاريخ.
سننال الجوهرة
في عصر الجماهير الغفيرة، من الصعوبة إقناع الناس أن في أيديهم «جوهرة» في حين أنها في واقع الأمر «جوزة». والجماهير الغفيرة تريد «الجوهرة»... وتلك هي سنة التاريخ.
معلومات قيمه
مقالة زاخرة بالمعاني والمعلومات.. خاصة للجيل الجديد الذي يحتاج لمثل هذه الاطروحات والخلفية التاريخية التي تؤكد علي استمرارية النضال رغم تبدل الايدولوجيات..
معلومات قيمه
مقالة زاخرة بالمعاني والمعلومات.. خاصة للجيل الجديد الذي يحتاج لمثل هذه الاطروحات والخلفية التاريخية التي تؤكد علي استمرارية النضال رغم تبدل الايدولوجيات..