العدد 3684 - الأحد 07 أكتوبر 2012م الموافق 21 ذي القعدة 1433هـ

شخصيات الصحف ومسئولية القارئ

محمد عبدالله محمد Mohd.Abdulla [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

الصحف كالبشر، كلٌ منها له شخصيته. صحيفتا «الواشنطن تايمز» و «ماكور ريشون» لهما ميول يمينية. صحيفتا «الديلي ميل» و «جيورنالي» تعبِّران عن يمين الوسط. «الغارديان» و «إيدنليك» صحيفتان يساريتان. «ألفيغارو» و «نانشونال بوست» لهما نزعة محافظة. «الإس إيه توداي» صحيفة قومية. وهناك صحف قريبة من مركز القرار كـ «نيويورك تايمز» و «نوتر فوا»، وهكذا دواليك.

لا ينتهي الأمر بهكذا حال، بل هو يمتد إلى سِمات الصحف أيضاً. فهناك صحف قويَّة، وأخرى ضعيفة. وهناك صحف انفعالية. سِمات الصحف تلك، مرتبطة أيضاً بالقراء. فالصحيفة القويَّة، لا تكون قوتها ذاتيةً فقط، بل تنبع من قوة قرائها، الذين يكونون بمثابة التحدِّي الذهني لها، حيث يتابعون ويجادلون فيما تكتبه صحيفتهم ولا يقبلون إلاَّ بالحقيقة والتحليل السليم.

والصحيفة المهلهلة، لا يكون ضعفها ذاتياً فقط، بل إن ذلك قد يزداد إذا كانت تستهدف قراءً غير مبنيين، يتلقفون الأخبار ويصدقونها في كل الأحوال دون تمحيص، نظراً لهشاشة تكوينهم الفكري. والصحف المنفعلة، تحاكي شريحةً من القراء، لديهم قابليَّة للتطرف أيَّاً كان شكله.

في أحيان كثيرة، تكتب بعض الصحف أشياءً لا يقبلها العقل ولا المنطق. لكنك قد تتساءل: لماذا يُكتَب مثل هذا الهراء في هذه الصحيفة أو تلك، ومَنْ الذي سيصدقه؟ هزَّة الكتِف المستهجِنة هذه منك، يوجد قُدَّامها من يصدق ذلك الهراء وبإطلاق حتى، من قراء قادتهم الظروف، أن يدركوا حدَّ الكفاف من القراءة والكتابة في أحسن الأحوال فقط، أو من مستهوي الأخبار الصفراء.

هذا الأمر يمكن دراسته بشكل أعمق؛ وفق مناهج إعلامية، وأخرى نفسية، كون ذلك خاضعاً لأشياء غير مرئية. ففي أحيان معيَّنة، تعتمل بداخل تلك الشريحة من القراء، دفوع دينية، فتراهم يُصدِّقون وباستسهال كلَّ ما يُمكن أن يُكتَب ضد غيرهم من أصحاب المعتقدات الأخرى، حتى ولو كان هراءً. لذا فليس غريباً أن نعرف، بأن ثلاثين مليون أميركي يعتقدون بأن المسلمين يعبدون القمر وليس الله تعالى. ولنبحث في هذه المفردة، أين تقع اليمينية من كلِّ ذلك.

وفي أحيان أخرى، قد تتحرَّك في دواخل تلك الشريحة من القراء، ميول سياسية، تجعلهم أيضاً يصدِّقون كل ما يقال بحق غيرهم ممن هم على هوىً سياسي مختلف، ممزوج بنوازع أخرى. وقد يعتقد البعض (رغم أنه مضحك) كما اعتقدت الشريفة ماجدة في مصر، أن ضحايا الثورة المصرية قتلوا على يد جنود من إيران وحزب الله وقطر وفلسطين والعراق، خرجوا من البحر على قوارب صغيرة، ولم يكن الرصاص قد أطلقه أفراد من قوى الأمن المركزي الذين قدِّموا للمحاكمة!

في كلِّ الأحوال، يصبح أولئك القراء ضحايا لتوجيه سياسي مقصود، بغية خلق رأي عام مناكف. وهم أسرى لنظام ميكانيكي موجَّه يتكوَّنون هم بداخله دون وعي به. وعندما يتمُّ الإحكام عليهم بشكل صارم بعد مشوار طويل من الإعلام الأصفر والكاذب ذي التوجهات المحددة، يُدخلون شيئاً فشيئاً إلى وسط غيتو مقفل لا يتجاورون ولا يسمعون ولا يقرأون ولا يتذوقون ولا يتحفزون إلاَّ للمزاج ذاته الذي تمَّ بناؤهم عليه، ليتم التحكم في ميولهم ومشاعرهم.

ويمكننا ملاحظة نماذج مماثلة من التاريخ. فقد كانت الدكتاتوريات الأوروبية الرجعيَّة، في القرون الثلاثة التي سبقت العام 1793 يعتمدون بشكل رئيسي على عامل التجهيل من خلال الإعلام، وذلك بغية إماتة أيِّ حالة تنبُّه لدى الشعوب. فكانت الأنظمة تعمد إلى إبعاد العديد من القطاعات الشعبية، عن مراكز التعليم الحرَّة، وتغييب الناس في الأراضي الزراعية الإقطاعية، والخدمة لدى الملوك والقياصرة بشكل انقيادي أعمى.

وقد كانت تلك السياسة ناجحةً جداً، لأنها لم تولِّد حالة من تغييب الوعي فقط، بل جَعَلَت من أولئك البشر يدمنون على تأليه القيصر والسيِّد، ويصدّقونه في كلِّ الأحوال. لذا، فقد كان آلاف الناس، يعملون ليل نهار في أرض أسيادها ليحصلوا نهاية الشهر، على حَطَبٍ للتدفئة فقط، حيث كانوا ينظرون إلى ذلك، على أنه عطاء وتفضُّلٌ لا حدَّ له من السيِّد.

بل ووصل الحال بأولئك البسطاء، أن يرفضوا أيَّ تغيير لأحوالهم المعيشية، ويساعدوا الحكومات المتسلطة على قمع الحركات المطالبة بالإصلاح والتي كانت قد بدأت في الاشتعال في ذلك الأوان، حيث وقَفَ أولئك البسطاء إلى جانب مَنْ كانوا يستعبدونهم ضد المتحرّرين والإصلاحيين، بعد تصديقهم، أن هؤلاء الثوار سيأخذون منهم الأخشاب التي تُمنَح لهم، وسيستأثرون بعد أسيادهم على كلِّ شيء لديهم. وكانت هذه القطاعات من البشر تصدِّق ما يقال بقين مطلق.

وقد كانت السلطات حينها تتلاعب بملاك الأراضي وبالفلاحين الواقعين تحت تأثير ذلك الخطاب التجهيلي متى ما أرادت، بضمان شيوع الجهل العام والمستحكِم على تلك الفئات، كما فعل البوربيون ضد يعاقبة نابوبي في العام 1799. أكثر من ذلك، فقد هَبَّ الفلاحون اللومبارديون للترحيب بالجنرال النمساوي راديتسكي الذي جاء لإخماد الثورة الوطنية التي كانت ستحررهم!

أكثر من ذلك، فقد قامت جمهورية كراكاو في العام 1848 التي لم تعمِّر كثيراً، بإلغاء الأعباء عن الفلاحين الكادحين، ووعدت الفقراء بإقامة مشاغل وطنية لمساعدتهم، وكان التيار التقدمي في هذه الجمهورية متطوراً جداً، إلاَّ أن ذلك لم يُحفِّز بعض الناس المُجَهَّلِين للانضمام إليها فضلاً عن الدفاع عنها. وكان الفلاحون السلافيون في شرق أوروبا قد ارتدوا زيَّ الجنود الإمبراطوري، وقمعوا بشدَّة الثوار الألمان والمجريين، رغم أن خطاب الحكم تجاههم حاط بالكرامة! (راجع عصر الثورة).

لنقرأ هذا الخطاب لأحد الإقطاعيين موجَّهاً لأقنانه «اعلموا أنني سيِّدكم، وفي هذه الإقطاعيَّة أنا القيصر وأنا الله على الأرض بالنسبة لكم... ومثلما يُكشَط جلد لحصانٍ أولاً عشر مرات بالمشط ذي الأسنان الحديد، ثم يُنظَّف بالمشط الناعم، فإنني سأنظفكم بمنتهى الخشونة، ومثلما يُنظِّف الله الهواء بالرَّعد والبرق، فإنني سأنظفكم أيضاً بالرَّعد وبالنار عند الضرورة». انتهى.

هذا النوع من الخطاب التقريعي المقبول لدى البعض، ثم التوليف الاجتماعي والفكري المستغِل لهشاشة الأفراد الذين لم يحظوا بمجتمعات منفتحة ولا بتعليم جيد، ذو علاقة قويَّة بطريقة عمل الصحف، وبما تكتبه وما تُخرِّجه من رأي عام. والحقيقة، أن بقاء مثل هذا المنهج الإعلامي القروسطي، يعوق من عملية التطوير والتحديث السياسي والاجتماعي، لأنه لا يقوم على أفهام حديثة أصلاً. لكنه وفي الوقت نفسه يدفع باتجاه ضرورة تحرر البشر من هذا الغيتو الإعلامي البائس.

إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"

العدد 3684 - الأحد 07 أكتوبر 2012م الموافق 21 ذي القعدة 1433هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 7 | 5:15 ص

      شكرا

      نشكرك اليوم على هذا المقال الممتاز والذي وضحت فيه لماذا لحد الان توجد عقول تريد تستعبد الناس والله سبحانه وتعالى خلقهم احار وبرغم اصبحنا اليوم نعيش في القرن الواحد والعشرون, ولكن يا أستاذنا الا تلاحظ هذيه الحاله بس في الدول العربيه وخاصة دول الخليج,يريدون بأن تعيش شعوبهم متلقين وكل فرد يقتات على حساب تعاست ابن جلدته وبأيه ثمن كما يحصل في البجرين.

    • زائر 6 | 4:32 ص

      هل الصحافة حقا سلطة رابعة؟

      هل تقوم الصحافة في يومنا هذا بدورها في الكشف عن الحقائق ونقد الكل وكشف كل شي امام المواطن الجواب حتما لا لان كل صحيفة مقيدة بحساب الربح والخسائر ورغبات المالكين واجنداتهم الخاصة والعامة....وسيظل هذا المنوال مدامت هناك قوي ضغط ونفوذ يتساوي في هذا الجميع علي مستوي الكرة الارضية ؛ ولا ننسي في عالمنا العربي والاسلامي دور المنابر الدينية في تعبئة وحشد وشحن الجماهير لل حسب توجهه والاجندة المرسومة له ..وهذا اعلام خطير لما للغة من تاثير شديد علي الفكر والوجن..

    • زائر 5 | 4:28 ص

      كل اناء بالذي فيه ينضح !

      من الملاحظ أنّ بعض الصحف الموجهة الى اشخاص لا يتمتعون بحصافة فكرية يعتبرون ما يورد في بعض الصحف حقائق لا يرتقي اليها الشك، فمن الطبيعي أن تجد بعض افرازات ذلك في التعليقات المرافقة لبعض المقالات ، وهذا شي معروف فاذا كان المقال وكاتبه في مستوى متدني ويحمل افكاراً ضحلة مكررة وينضح بعبارات الاقصاء والشتائم ضد فئة اعلى منه ثقافة واصالة وانتماء فان التعليقات تكون في هذا المستوى ! وفي وفي مقابل ذلك تجد في صحيفة معينة نوعية التعليقات وكيف ترتقي الى مستوى عال من الثقافة يضاهي ويرفد المقالات نفسها .

    • زائر 4 | 1:19 ص

      كبير

      لم اقرأ لكاتب بعد هيكل مثللك . شكرآ

    • زائر 2 | 12:10 ص

      شكرا على الطرح الموفق استاذ محمد

      لنتعلم من تلك الدول التي سبقتنا بمئات السنين

    • زائر 1 | 11:24 م

      نعم

      دائما ما ينزلق الجهال حتى بزلقة الموز

اقرأ ايضاً