نزاهة القاضي وضميره القضائي واستقلال حكمه، ينزهه بمرحلة، عن الطبيعة الإنسانية بمعيار الخير والشر، ولكن لا يخرجه من طبيعته الإنسانية، ولا يرفعه درجات الملائكة، إلا بالتصاقه وتوحده في القانون الواجب تطبيقه تساوياً على جميع الناس المتقاضين أمامه، سواءً كانوا أفراداً أو شخصيات اعتبارية، علا شأنها أو تدنى.
والقاضي يحكم بعقابٍ على جرم مُثبَت بالدليل الاعترافي أو الشهادي أو كليهما، وحُرّيْن، دون ضغوطٍ ولا اصطيادٍ لحسن نِيّة، ومدلول عليه بالضرر النتيجة، أما النوايا فليست ملموسةً وليس لها أي عقاب، وهذا العقاب، لا يختاره القاضي ولا يقدر درجته بنزاهته وضميره، بل يستقيه من قانون العقوبات والقوانين المرتبطة، إلا أن هناك أمراً واحداً متروكاً لتقدير القاضي الشخصي في أحكامه، ألا وهو توقيت إنفاذ العقوبة.
وقبلها على القاضي، أن يتبين الدليل، سواءً الاتهامي أو الدفاعي أو شهادة شاهد، وحرية الإدلاء به من صاحبه، ووعيه بالنتائج العقابية المترتبة عليه، واتباع القاعدة الحقوقية، التي تطرح حق المتهم في رد الادعاء والدليل، بالنقاش وتبيان ضعفه ومصداقيته، وعلى القاضي أن يتبين أن لا مصلحة في دلو الدالي به، ولا ثأراً.
فيأتي حكم القاضي في بعض الحالات بأمرين، الحكم بالعقوبة، وبأمر إنفاذها، والحكمان منفصلان، فأولهما مصدره القانون، والثاني مصدره تقدير القاضي.
وموضوعنا هنا يختص بالحكم الثاني وهو تقدير القاضي لتوقيت إنفاذ الحكم، وهذا لا يشمل الحكم بوقف التنفيذ أو إنفاذه بنص القانون، بل التقدير الشخصي للقاضي، وهنا الخلل، الذي ينبغي أن يحكمه القانون أيضاً ولا يُترك للطبيعة الإنسانية للقاضي.
وتساؤلنا ودعوتنا هنا ليست اعتباطية، ولا بقصد الإساءة للقضاء، بل ان لها ما يسوقها، فمهما بلغت حصافة قاضٍ هنا، فهي ليست صفة لازمة لقاضٍ هناك، إذ تحكمها، إن خرجت عن نص قانوني، رؤية إنسانية تتأثر بما للقاضي وعليه.
القاعدة القانونية الأساسية والمنصوص عليها في الدساتير، أن المتهم بريء حتى تثبت إدانته، والإدانة حين التقاضي، لا تتم ولا تستحيل حقيقةً قائمةً، في منطوق حكم ابتدائي، في أول درجات التحاكم، إذ ان محاكم الاستئناف، هي بمثابة التقاضي بين المتهم الذي لم تثبت عليه تماماً بعد التهمة، والمحكمة الابتدائية، من حيث اعتبارات احتمالات الخطأ والتقصير والاستعجال الإنساني في إصدار الحكم، الذي قد يعتريه إهمالٌ أو تجاهلٌ جزئي، غير مقصود، من القاضي فيما يضعف دليل الاتهام، أو تطبيق عقوبة قد يراها قاضٍ آخر تعسفاً في إيقاعها، أو إهمالاً لمبدأ إنساني هو الرحمة قبل القسوة، ما قد يجعل التنفيذ الفوري للعقوبة، ظلماً متعسفاً لمتهم بريء، أو في العقوبة التي قد تؤول إلى أخفّ منها، في المحاكم الأعلى درجة.
وحتى من بعد حكم محكمة الاستئناف، يبقى المتهم بريئاً، ولا ينتهي بوجوب تنفيذ العقوبة إلا من بعد حكم محكمة التمييز، أو مضي المدة القانونية وتَخلِّي المتهم عن حقّه في التظلم، والوضع نفسه فيما يتعلق بالمدة القانونية لاستئناف المتهم، إذ قد ترى المحكمة الأعلى درجة أن عواراً قانونياً أو إجرائياً قد أصاب حكم سابقتها.
فالجاري في بعض المحاكم الحكم بتنفيذ عقوبة الحبس والغرامة فورياً، على رغم أن أمام المتهم مراحل أخرى من التقاضي، وفي هكذا حالة لا راد لحكم القاضي إلا حكم المحكمة الأعلى رتبةً بعد زمن، والتي قد تحكم بالبراءة، فيكون المتهم قد أصابه أمران جراء حكم القاضي الابتدائي بتنفيذ عقوبة الحبس، أولاها حبسه ظلماً، وثانيها أنه أمْتُهِن، ورُسِمَت له صورة في مجتمعه، سيعاني طويلاً من جرائها وأهله بالامتهان. هذا احتمالٌ واحدٌ وباب الاحتمالات مفتوح على مصراعيه.
وقبله، نفهم أن هناك الحبس الاحترازي فيما بين مراتب التحقيقات والمحاكمات، وهذا الحبس هو نوعٌ من وقاية المجتمع من آثار جرائم مثل ما اتهم بها أي متهم، ولكن كيف يتوصل قاضي التحقيق (النيابة العامة)، أو قاضي المحكمة، إلى أن يحبس متهماً بجريمة القذف مثلاً في حين لا يحبس متهماً بجريمة القتل، أو يحكم بتنفيذ العقوبة على هذا ولا يأمر بها على ذاك، والتهمة واحدة. والأمثلة مليئة بها ملفات المحاكم والمحامين، ثم نسأل، لماذا نرى تنفيذ الأحكام في بعض القضايا، مثل القضايا المالية والتعويض، والحجز على الأموال والمنقولات، تستلزم حكماً متمماً من محاكم التنفيذ، ومن بعد، اما انقضاء المدة القانونية للتظلم لدى مختلف درجات المحاكم، أو من بعد صدور الحكم النهائي، في حين أن محاكم الجنايات والجرائم، يجوز لقاضيها الحكم بإنفاذ العقوبة، حتى لو صرح المتهم بعزمه على الاستئناف أو التمييز؟
لذا نرى لزوم سنّ قانونٍ يُرتب درجات التهم، بحسب الجرم، والتي يتوجب تجاهها الإنفاذ الفوري لعقوبة الحبس في درجات الحكم القضائي ما دون حكم محكمة التمييز، والتي قد تختص بالجرائم الكبرى مثل القتل وترويج المخدرات، وذلك ليسترشد بها القاضي، تماماً كقانون العقوبات والقوانين المرتبطة، وكذلك إجراءات الحبس على ذمة التحقيق التي تحكم بها النيابة العامة، فلا يجوز حقوقياً أن يُحبس متهمٌ بناءً على تهمة، لمدد طويلة أكثر من أيام، بغاية التحقيق، وأما أكثر من ذلك، فبأمر من المحكمة، وتَبَيُّنْ أنها جريمة وليست جنحة أو جناية، وتستلزم الحبس الاحترازي حمايةً للمجتمع من نزعة المتهم بالجريمة في تكرارها، أو حفاظاً على سير التحقيق من تواصل المتهم مع شركاء له لم يقبض عليهم بعد، خشية هروبهم أو التأثير عليه بالتهديد والترغيب.
ونختم مقالنا بسؤال للمختصين في القضاء والقانون، لماذا لا يُعَوّض بالإضافة لإعادة الاعتبار القانوني، لمن تم حبسه على ذمة قضية أو حكم ابتدائي، ومن ثم ثبتت براءته؟ وما الحكمة في أن تحبس النيابة العامة المتهم المدة القانونية القصوى ثم تطلقه لعدم كفاية الأدلة، فكأنها بذلك حكمته بعقوبة مؤقتة، وخصوصاً أنها من دون تعويض.
إقرأ أيضا لـ "يعقوب سيادي"العدد 3683 - السبت 06 أكتوبر 2012م الموافق 20 ذي القعدة 1433هـ
كان وأخواتها لا تربطهما صلة بإبليس وبنات أفكاره
قد لا تكون الأفكار أساسية ولا واقعية الا اذا أصبحت قيد التنفيذ أو نفذت. فتنفيذ فكرة مغلوطة قائمة على الشبة والضن لا قضاء صحيح فيها، لغياب العقل والعدل معاً. هذا لكون الأساس غير صحيح وأكثره واقع بين الضن و الشك والريبة تملئه فأمست الأفكار والقضاء في ريبة.
فهل يجوز الأخذ بكلام مريب لا صدق ولا ثبات فيه؟