كيف يستطيع الفَقْدُ أن يختارَ ضحاياه بهذه الأناقة وهذا الذوق الرفيع؟
يتفنّن في اختيار من نحب ومن نرى فيهم الجمال الروحيّ يتجسّد مع نقاء القلوب، وحين نشعر بأننا متماهون معهم حدَّ الثمالة، يختطفهم منا ليتركَ لنا الحنين والشوق والحزن.
كلُّ فَقْدٍ هو آلةٌ لاستزراع الحنين بدواخلنا، طريقةٌ لتربية الشوق، ووسيلةٌ لاكتشاف الإنسانية فينا، وربما لاكتشاف مقدار حبنا للآخر. يخلّف معه حالةً من الوجدانية التي لا يمكن أن تلغيها أية طريقةٍ من طرق الترفيه حين تصرخ: أنا هنا!
الفَقْدُ بكل حالاته المختلفة المتمثلة في الموت والرحيل والهجرة والبُعْد، الفَقْدُ الذي يسرق منا قدرتنا على لملمة ذاكرتنا وهي تتشظى بمن رحلوا كلّما قسنا مسافات وجعنا بمقياس ريختر الألم، الذي يجعلنا «نتذكر الماضي ولا نتذكر الغد في الحكاية» كما يقول درويش.
قبل أيام كتبتْ صديقتي الشاعرة منى الصفار بعد أن استبدّ بها ألم رحيل والدتها التي اختطفها مرض السرطان: «هنا على حدِّ وجعي، تقف الذكريات البائسة لصورة شعرك وهو يتساقط خصلاتٍ خصلات، ويتساقط معها قلبي المكلوم بصمتٍ وأحاول عبثاً أن أبتسم. حدثي قلبي من خلف خيطنا المقطوع، أخبريني كيف أشفى من الفقد».
أوقفتني ذاكرتها على باب ذاكرتي حيث والدتها وشقاوتنا حين كنا نتفنن في استراق الضحكات منها، وأخذتني في جولةٍ بداخل ذاكرتي مع جميع من فقدت ابتداءً من والدي، مروراً بزوجي، وانتهاءً بالمرحومة عفاف الحلواجي، وما بين فَقْدٍ وفَقْدٍ كنتُ أتذكرُ الكثيرين ممن رحلوا رحيلاً أبديّاً أو ممن أخذتهم المسافات الطويلة أو القصيرة.
هكذا هو الفَقْد يتركنا في تساؤلاتٍ غامضةٍ لا نجيد الإجابة عليها مهما حاولنا الغوص في الأبجدية لاختراع ما يتناسب مع قسوته. وكلما أتانا فَقْدٌ جديدٌ أعاد إلينا شريطاً من ذكريات الفقد المتوالية، وكأنه أوركسترا تولّد نوتةً جديدةً مع كل نوتةٍ، حتى يسهو المؤلف عن ضرورة الانتهاء بقفل المقطوعة كي لا تطول.
الفقد تمرينٌ يطوّع القلب على نبضٍ جديدٍ لم يألفه، يعلّمه معنى أن يكون وحيداً حين يجب ألا يكون. معنى أن يكون كبيراً في تحمّل أطنانِ الدمع والحنين. معنى أن يكون ماسيّاً في صلابته، أبيضَ في ترتيب شهقاته.
في الفقد المؤقت؛ تختفي الأرقام من عقارب الساعة وكأنها متواطئةٌ مع الغياب، تمرّ الساعات ثقيلةً، طويلةً، ممتدةً إلى أطول من المسافات التي تفصل بين الفاقد والمفقود، تتلصص الذكريات بشكلٍ متوالٍ على العقل، حتى يظنّ أنها لن تبرح مكانها، ولا تهدأ إلا عند اللقاء، تتمادى كلما اقتربت اللحظة، وتنتهي إلى زاويتها المركونة في الذاكرة حين يلتقي الاثنان.
في الفقد الدائم، تمرّ الذكرى عاصفةً، جارفةً، قويةً، تُدْخِلُ المرء بركاناً من الشوق لا يلبث أن يهدأ حين تنتهي الحمم، ومع مرور الوقت يصبح الحزن شفيفاً، مترفعاً عن الزيارة اليومية، لكنه حين يجيء؛ فإنه يجيء قاصماً، مدويّاً، وخصوصاً مع إدراك أن الآخر لن يجيء.
ومضة:
للفاقدين والفاقدات... لأهالي شهداء الربيع العربي، لأهالي معتقلي السياسة من الشعوب المظلومة، للمحبين الذين فارقهم أحبتهم، لأهالي الموتى الذين رحلوا بغير إنذارٍ أو بإنذارٍ مسبق، لجميع من شعروا لحظةً بالفقد، إقرأوا قول محمود دوريش في وصايا الراحلين: «لا تتذكروا من بعدنا إلا الحياة».
إقرأ أيضا لـ "سوسن دهنيم"العدد 3682 - الجمعة 05 أكتوبر 2012م الموافق 19 ذي القعدة 1433هـ
احسنتِ يا اختي سوسن
لو تكلمت ارض البحرين لسمعنا بكاءها و حنينها على شهداءها فهي قد ضمتهم بحنان و ترفقت بهم في جوفها بعدما اضناهم العذاب و خطفهم الموت بسرعة تعانق الشباب و تقبل جباههم الطاهرة و ترفع البحرين رأيها شامخاً قائلة انا افتخر بشباني الشهداء و أفخر بشعبي فأنا معهم دائماً شاخصة نظري اليهم أتألم لحالهم و أبكي لفقدهم.
جميل
كل ما مات شهيد زاد الفقد ليس في قلوبنا فقط بل في قلب الوطن . مقال ممتاز جدا تسلم يديك
الحمد لله
مقالك اليوم اعادني لكل حالات الفقد ايضا ولكن رسم لي طريقا من الامل ايضا. تجيدين كيف تختمين مقالاتك شكرا لقلبك الكبير استاذة . ورحم الله موتاك وموتانا واعاننا الله على فقدهم
فعلا رائع
اللهم ألهمنا الصبر على فقد من نحب
شكرا
مقال رائع ...