شهدت الأيام الأخيرة ذكرى مرور ثلاثين عاماً على غزو بيروت عام 1982 وتسعة عشر عاماً على توقيع اتفاقية أوسلو بين منظمة التحرير الفلسطينية والكيان الصهيوني. وقد حال الانشغال بمتابعة حملة الانتخابات الرئاسية الأميركية، والهجمة الإعلامية على الإسلام والمسلمين، والاحتجاجات التي عمت العالم الإسلامي رفضاً للفيلم الأميركي المسيء للرسول الأعظم، دون تناول غزو بيروت واتفاقية أوسلو في حينه. حديثنا هذا ليس معنياً بالحدثين بذاتهما، فقد غطيا كثيراً من قبل الكتاب والمحللين، ولكن تداعياتهما، وإسقاطاتهما وتأثيرهما في مآل الكفاح الفلسطيني في الحرية وتقرير المصير.
لقد أحدث الغزو الإسرائيلي للبنان تغيراً كبيراً في خريطة النضال الفلسطيني، ونقل مركز جاذبيته من الشتات، حيث الحلم الفلسطيني في التحرير كلياً وشاملاً للأرض الفلسطينية من البحر إلى البحر، إلى الأراضي التي احتلتها «إسرائيل» في عدوانها على العرب عام 1967 وتحديداً الضفة الغربية وقطاع غزة، حيث هدف التحرير يقتصر على استعادة تلك الأراضي وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة فوقها.
هل كان الانتقال في أهداف واستراتيجيات منظمة التحرير الفلسطينية، بعد مغادرتها بيروت، هو تعبير عن إخفاقات عسكرية أمام ضراوة الهجمات الإسرائيلية على قواعد المقاومة فحسب، أم أن له علاقة موضوعية، بانتقال مركز الجاذبية في الصراع، من المخيمات الفلسطينية بالشتات، إلى الداخل الفلسطيني؟ ذلك أمر من الصعب ربطه بعامل واحد، وإهمال غيره من المحركات التي حرضت على هذا الانتقال.
الثابت هو أن المخيمات الفلسطينية شكلت العمود الفقري للمقاومة الفلسطينية، منذ انطلاقتها في منتصف الستينيات من القرن المنصرم. لقد تشكلت قيادات حركة المقاومة الفلسطينية، من لاجئين أجبروا على البقاء في الشتات منذ نكبة فلسطين عام 1948م. وبطبيعة وجودهم خارج حدود فلسطين التاريخية، ونظراً للظروف الموضوعية التي أحاطت بالضفة الغربية وقطاع غزة، لم يكن منطقياً أن تكون تلك المناطق مراكز أساسية للعمل الفلسطيني المقاوم. فالضفة الغربية لم تكن حتى حرب يونيو/ حزيران عام 1967م، أرضاً محتلة، بل كانت جزءاً من المملكة الأردنية الهاشمية، وقطاع غزة، كذلك لم يكن محتلاً بل كان تحت سيطرة الإدارة المصرية.
لذلك، فإن المنطقي هو توجه الكفاح الفلسطيني إلى الأراضي التي احتلها الصهاينة عام 1948م، وأسسوا عليها كيانهم الغاصب. وذلك يعني في نتيجته أن المعنيين بشكل أساسي من الفلسطينيين، بالصراع مع الصهاينة، هم الذين شردوا من ديارهم، وفقدوا منازلهم ومزارعهم وممتلكاتهم، أما فلسطينيو الضفة والقطاع فدورهم يقتصر على مناصرة أشقائهم الفلسطينيين في استرجاع حقوقهم.
بعد احتلال الصهاينة للضفة الغربية وقطاع غزة، مر الكفاح الفلسطيني فيهما بمرحلتين رئيستين. الأولى، أمل الفلسطينيون خلالها باستعادة أراضيهم من خلال الحل السلمي وقرارات الأمم المتحدة. وقد ساد تصور لديهم، آنذاك، بأن تعود السلطة في تلك الأراضي، بعد تحريرها، إلى الأردن فيما يتعلق بالضفة، ومصر بالنسبة للقطاع. ولاشك في أن القرار 242 الصادر عن مجلس الأمن الدولي، وتحركات مبعوث الأمم المتحدة، غورنار يارنغ، ومبادرة روجرز، جعلت بوابات الأمل مفتوحة لدى فلسطينيي الضفة والقطاع باحتمال تحرير أراضيهم بواسطة الحلول السلمية.
إن تفاؤل الفلسطينيين بالضفة والقطاع، بإمكانية تحرير أراضيهم من الاحتلال الصهيوني، بالحلول السياسية، هو الذي أفشل مشروع الرئيس عرفات في الأيام الأولى للاحتلال الصهيوني بتثوير تلك الأراضي، وفراره من نابلس بعد مطاردة الإسرائيليين له، في أواخر عام 1967م، وفشل استراتيجية فتح، آنذاك في شن حرب شعبية ضد الكيان الصهيوني، تنطلق من الأراضي التي احتلت حديثاً.
هكذا فإنه بالقدر الذي فشلت فيه احتمالات الحل السلمي تصاعد النهوض الفلسطيني في الضفة والقطاع، وتعزز دور منظمة التحرير الفلسطينية في الداخل، لكن تصاعد النهوض هذا لم يكن متوافقاً مع استراتيجية فتح، ومنظمة التحرير الفلسطينية، في تحرير الأرض من البحر إلى البحر. فقد رأى قادة هذا النهوض، أن هذا الشعار عدمي، تقف في مواجهته عوامل كثيرة، من ضمنها الموقف الدولي والواقع الإقليمي والعربي، والقدرات الذاتية للفلسطينيين. وأن الممكن طرحه فقط، هو تحرير أراضي الضفة الغربية وقطاع غزة، والقدس الشريف، الذي ركزت الأدبيات الفلسطينية عليه، منذ منتصف السبعينيات باعتباره عاصمة الدولة الفلسطينية المستقلة المرتقبة.
الغزو الإسرائيلي لبيروت، هو محطة انتقال رئيسية في أهداف واستراتيجيات منظمة التحرير الفلسطينية، من هدف التحرير الكامل، واعتماد استراتيجية الكفاح المسلح، إلى إقامة دولة على رقعة صغيرة من فلسطين التاريخية، واللجوء للحل السياسي، القائم على الاعتراف بالأمر الواقع، كاستراتيجية للحل.
لكن الغزو الإسرائيلي بمفرده، لم يكن سبب هذا الانتقال. فنقطة التحول في التعادل بين الداخل والخارج وانتقال مركز الجاذبية، هو انتفاضة أطفال الحجارة. فالقضية الفلسطينية التي أصبحت منسية عربياً ودولياً، بعد خروج المقاومة من بيروت، عادت بقوة إلى الواجهة بعد هذه الانتفاضة. وكان طبيعياً ومنطقياً أن يكون المطلب الرئيسي للمنتفضين، هو جلاء الاحتلال عن الضفة والقطاع، وليس التحرير الكامل لفلسطين.
لم يكن بإمكان قيادات حركة المقاومة أن تواصل استنادها إلى عمودها الفقري، في الشتات، بعد هزائمها، في الأردن ولبنان، فذلك يعني نهاية محققة لهذه القيادات وفشل محتم لمشروع التحرير. ولذلك تأتي استجابتها لنداء الانتفاضة في سياق موضوعي للاحتفاظ بالبقية الباقية من الحلم الفلسطيني في التحرير، وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة.
تلك كانت المقدمة لمفاوضات أوسلو التي سبقتها وهيأت لها مباحثات مدريد وواشنطن. والمحركات ذاتها، ربما تكون سبباً مباشراً، في تراجع بعض القيادات الفلسطينية، عن الالتزام بمطلب عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم، واعتبار البعض ذلك المطلب حقاً فردياً يطالب به كل لاجئ، وليس مسئولية مفروضة على السلطة الفلسطينية، والموضوع هذا لايزال في خانة المناقشات والجدل، وبحاجة إلى المزيد من التحليل والتأصيل، بما يخدم التمسك بالثوابت الوطنية والقومية، والحفاظ على الحلم الفلسطيني في تحقيق الكرامة وتحرير الأرض.
إقرأ أيضا لـ "يوسف مكي "العدد 3681 - الخميس 04 أكتوبر 2012م الموافق 18 ذي القعدة 1433هـ