العدد 3677 - الأحد 30 سبتمبر 2012م الموافق 14 ذي القعدة 1433هـ

كوابيس الأشكال بامتياز... هروب إلى الوهم

جعفر الجمري jaffar.aljamri [at] alwasatnews.com

-

كتبتُ عن الارتهان والانشداد إلى الشكل قبل سنوات رجوعاً إلى ما تمَّ تداوله واستقام في اللغة والاصطلاح عند العرب في جاهليتهم وبعد الإسلام؛ قبل تشكّل الميادين و«دوائر» القرار و«مثلثات» العبور والرعب والصمود و«مربّعات» المواجهة. كان ذلك قبل أن تبرز حساسية عربية رسمية من بعض الأشكال؛ وخصوصاً «الدائرية» منها وحتى «المستطيلة» و«المربّعة».

أعود إلى الموضوع نفسه وقد تغيّرت نظرات إلى مؤدّى وأثر ونتاج تلك الأشكال؛ ليس باعتبارها أشكالاً هندسية صرْفة وجامدة فرضتها هندسة طرق أومرور؛ بل باعتبارها أثراً وفعلاً ونتاج حراك والصبر على غُصص وإهانات لعقود بات من البهيمية أن ترضى بواقع حالها المزري ذاك إلى أبد الآبدين.

«الدائرة»، «المربّع»، «المستطيل»، «المثلث». أشكال لكل منها إيحاء وإشارات وتأويل ونظر. لا يمكن التعامل معها اعتباطاً. ربما لبعض الوقت وليس كل الوقت.

العرب قديماً كانت لها تأويلاتها للأشكال الهندسية من الدائرة (حالياً الدوّار أوالدائرة، تحيط بوجه المُستهدف في دور من الباطن تتولاه مؤسسات صحافية والطاقم التابع لها) إلى «المثلث» إلى «المستطيل» وصولاً إلى «المربّع». في كلامهم يكثر: «دارت عليهم الدوائر» (تماماً كما يحصل في الدوائر التي تحاصر وجوهاً قالت: الكرامة خياري)، وفي الحروب عندهم: «الحرب دائرة»؛ أي قائمة ومستمرة؛ وفي استقرارهم؛ وأحيانا قلقهم، والأثافي هي الحاضرة.

قال أبومنصور محمد بن علي بن عمر بن الجبّان الأصبهاني الرازي: والأثفية حجر مثل رأس الإنسان، وجمعها أثافيّ بالتشديد. قال: ويجوز التخفيف. وما كان من حديد ذي ثلاث قوائم فإنه يُسمّى المنصب ولا يسمّى أثفية. ويقال أثفيت القدر وثفّيتها إذا وضعتها على الأثافي.

في برمودا هنالك مثلث رعب؛ إذ تختفي السفن والغوَّاصات بكل ما على متْنها. تعجز أجهزة الرصْد من تعقّب ما يحدث وأجهزة الملاحة من وصْف ما يدور في ذلك الجزء من ماء العالم. كأنه مملكة لا يمكن الدنوّ منها أوالتجرؤ على حدودها وضمن حالات منتخبة. عشرات الطائرات المحلِّقة فوق جغرافيته وحدوده لم يُعثر لها على أثر. شكل آخر يتحدّى كل هذا الغرور؛ فيما التوصّل إلى سرّه بدءاً بأدوات الرصْد والتجسُّس وليس انتهاء بآلات إحصاء الأنفاس. يظل الإنسان في الشكل أوخارجه أضعف من بعوضة أمام الأسرار والإمكانات التي تكتنز بها الطبيعة. الطبيعة التي لا تخضع لإرادة أرضية.

الشعوب تنتخب أشكالها؛ لكنها لا يمكن أن تركن إليها على مدار الوقت، وهي من المفترض أن تمارس دورها وأثرها وتأثيرها في المحيط الذي تحيا فيه. الأشكال الهندسية لا عيب فيها. «العيب» يبرز في الخطر الذي تمثله حين يتحوَّل جزء منها إلى مفصل وفارق وانتباه في الذاكرة.

من الانفجار الكبير، كانت الميادين هي الخيار. لا يهمّ إن كانت «مستطيلة أو«مدوّرة» أو«مربّعة» أوحتى لا شكل يمكن الاستدلال عليه.

بات الشكل «الدائري» يمثل حساسية من جهة، وشهيّة من جهة أخرى لأنظمة الأمر الواقع الذي لا يمكن أن تصمد مع طبيعة متغيّرات وتحوّلات الزمن والوعي الذي يتراكم في كل جزء من الثانية، في عالم لن يصمت طويلاً عن العجَزة والمقعدين الذين لا يملكون ذرة من حياة وهم يمنّون أنفسهم بالفوز بكل ماراثون أوحتى سباق للمسافات الطويلة.

حساسية من جهة اعتبارها المدخل وأسّ الخطر، والطريق إلى وضع حد لمثل ذلك الواقع الذي تم فرضه فرضاً؛ وحساسية من بقاء تلك الميادين على حالها وكأنها تستدرج الذين طفح بهم الكيْل كي يتخذوها قواعد احتجاج، ومن ثم منطلقاً لإرجاع نصاب الإنسان وحقوقه إلى وضعه الطبيعي: ألاّ يتجرّأ أي مخلوق على النظر إلى الإنسان باعتباره جزءاً من أثاثه وأشيائه وحتى بغاله ونعاجه!

وعودة إلى الميادين في مسمَّياتها المتفق عليها عربياً، وفي مسمّى المفرد إقليمياً (الدوّار)، باتت أخطر من راجمة صواريخ موجّهة وأقمار اصطناعية للتجسُّس، وبات إعادة النظر في هندسة الطرق واجباً قومياً ودينياً أحياناً؛ وخصوصاً ما يتعلق بذلك الشكل. في بعض الأشكال الهندسية فتنة، والفتنة أشدّ من القتل أوالذبح لا فرق! وعلينا ألاّ ننسى العرب في ترديدهم في فترات قلاقلهم والأزمات منذ جاهليتهم إلى اليوم: «دارت» الحرب، أوالحرب «دائرة»؛ بمعنى قائمة ومستمرة ونارها مسْتَعرة.

الحفرة فيها تعدّد أشكال وتوحّد هدف وختل. في أمثال العرب أيضاً يبرز: «من حفر حفرة لأخيه وقع فيها». والحفرة قد تكون في شكل دائري أومربّع أوحتى مستطيل. لا يهمّ الشكل هنا، المهمّ الوصول إلى الهدف منها: أن يقع أحدهم في بطن الشكل لا الشكل وحده.

المشنقة تأخذ شكلها الدائري بإحكام حين تلتفّ على عنق من نُصبت له. قبل ذلك هي مموّهة، بين المثلث وشبه المستطيل، وهي مرتخية من دون موضوعها (العنق). حين يُحكم الحبل قبضته على العنق يتضح شكلها المتسق مع العنق في انسجام دائري.

الأرض هي الأخرى «مدوّرة» ولا يفطن لمكر ذلك الدوران من يعتقد أن حاله ثابت لن يزحزحه شيء ولن تحركه قوة مضادة ولن تنال منه ظروف وأنواء. ينسى أن الوجوه الصلفة والمتجهّمة والمرعبة في أدائها ونظرها إلى الإنسان كانت هنا يوماً ولم تعد كذلك. تيقن كثيرون أنها ثابتة لا يمكن أن يمْسَسْها سوء؛ فيما هي اليوم في دائرة النسيان واللعنة.

المُربّع هوالآخر من الأشكال المزعجة التي يتم استدعاؤها؛ وخصوصاً، في الأزمات والاحتقان والقلاقل؛ وخصوصاً إذا انعدمت الرؤية لوضع حدّ لها؛ أويتم تعمّد اختلاق نفاد الرؤية؛ فباتت مقولة «العودة إلى المربّع...» سواء كان الأول أوالأخير، تعبيراً عن اضمحلال وتآكل وانهيار ما تم التوصّل إليه، وفي الوقت نفسه لا يخلومن تذكير بما حدث في المربّع إياه، وهوبالتأكيد ممّا لا يسرّ الذاكرة ولا يفرحها.

وللمستطيل حكايات لم ولن تنتهي. يبرز ذلك الشكل الذي لا يخلومن خوف في النهايات التي يُحتضن فيها الإنسان (القبر)؛ لكنه يدمي حتى الحجر حين يكون الشكل المفضّل لمن يتحكّمون في مصائر الناس إرسالاً لهم لذلك الشكل من الحيّز النهائي والإقامة النهائية، من دون انتباهة حس أويقظة ضمير، فيكدّسون البشر هناك في تلك الحيّزات. بات إيداع أولئك البشر لمواقفهم الرافضة وغير الممالئة ضرباً من القيام بمهمات اجتماعية وخيرية لدى بعضهم.

في خشية الشكل اليوم فليسهر الهدم، هدم كل مبعث للخوف. ماذا بعد؟ الحياة في غيبوبة أساساً بخشية كتلك بقي أن نبحث لنا عن مأوى أما هي (الحياة) فبطبيعتها محيطات من مشاكسة لا تنتهي. لا يضيرها الشكل؛ وخصوصاً الشكل الذي يضعف أمامه الذين يتمترسون بخلاعة آلة الدمار التي لا أخلاق ولا شكل محدداً في تعاطيها مع الإنسان.

إنها كوابيس الأشكال بامتياز. ولن يحدث ذلك إلا بانحسار الروح وتبدّد المعنى بحيث لا يصار إلى أثر يدل عليه.

إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"

العدد 3677 - الأحد 30 سبتمبر 2012م الموافق 14 ذي القعدة 1433هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 2 | 12:17 م

      عندما تختل الموازين وتضطرب الأنظمة والقوانين،يصبح الحكم المنحرف أداة لتبريرالأخطاء ،لا لتنجنب الإنحراف وإصلاح الأحوال ،فتظهر النفوس المنحرفة على حقيقتها وتبدو طبائع الغابة على سجيتها،تتحرك الجهود من زوايا النفعية ،وتسير الأهواء في أفلاك البلبلة والإستهتار ،هكذا قرارات سطحية للمظاهر والشكليات ،تعلن عن الطغيان عدلاً،وعن الفساد اصلاحاً،وعن الفجور تقوى . وتحياتي لكم ... نهوض

    • زائر 1 | 2:55 ص

      وهم أم حقيقة

      وجدته هروب الى الحقيقة في النهاية.

اقرأ ايضاً