ما ينشر الآن عن الإسلام ليس جديداً، فصور كراهية العرب والمسلمين شاعت كثيراً مع كل حرب عربية -إسرائيلية. أذكر في زمن دراستي الجامعية في مطلع السبعينيات في الولايات المتحدة، كم كانت الصور النمطية السلبية عن العرب سائدة ومنتشرة. الجديد هذه المرة أن ما كان ينشر في السابق في مكان مغمور لا يراه سوى قلة من المتعصبين ولا يحظى بفرصة للتوزيع خارج ناصية شارع، يمكن أن يراه الآن كل الناس، بفضل الـ «يوتيوب» والـ «تويتر» والـ «فيسبوك».
في السابق، وُزعت الرسومات ذاتها بحق المقدس وغير المقدس، وبحق العربي والمسلم، لكن شعوبنا العربية لم تكن لتسمع بالأمر أو تعرف عنه. ويمكن الاستنتاج أن الرسومات والكتابات والأفلام لن تتوقف في المستقبل، فبإمكان أي فرد في المعمورة مهما بلغت حالته الذهنية والنفسية سقوطاً أو صعوداً أن ينشر ما يريد.
إن ردود الفعل العنيفة والمتسرعة تسيء ولا تفيد، فقد أصبح سلمان رشدي بفضلها كاتباً مشهوراً، ولم يكن صاحبُ الفيديو ليحلم أن يشاهده ملايين الناس لولا ردة الفعل التي تصرفت وكأن الفيديو انعكاس للحقيقة، ففي عصرنا سقطت كل أنواع الرقابة، وأصبحنا في عالم يتحول فيه العبء من الرسام والمؤلف والمخرج الى المشاهد والقارئ. لقد أصبح المشاهدُ الحَكَمَ الوحيد في هذه اللعبة.
إن قناعة البعض بأن ردود الفعل الصاخبة، من شاكلة الهجوم على السفارات الاميركية وقتل سفراء، ستغير صورة وفيلماً، أو ستمنع أفلاماً اخرى وستجعل الغرب والولايات المتحدة توقف أفلاماً قادمة، بل على الاغلب ستكون ردود الفعل العربية والإسلامية بشكلها الراهن مقدمة لبروز أشخاص وجماعات يجدون في أعمال كهذه تسلية وفرصاً للشهرة، وطريقة لإثارة مجتمعات تسهل إثارتها.
وبإمكاننا أن ننظر الى الفيلم الرديء على أنه لم يمس الرسول، وذلك لأن الشخص الذي يمثل الدور في الفيديو ليس الرسول، وليست أفعالُه وسلوكه أفعالَ الرسول، كما أن الفيديو بالكامل يمثل صورة الإسلام في ذهن صانعه لا الاسلام وتعاليمَه الحقيقية. ويمكن القول إن الفيديو لم يكن عن الرسول ولم يكن عن الاسلام، وإن الرسول لا يمكن التعرض له، لأن كل من يتعرض لشخصه التاريخي والإنساني والنبوي فهو يهاجم صورة في ذهنه وليس الرسولَ وحقيقته، وهذا يعني ان الفيلم أعجز من ان يسيء إلى الرسول، وهو لهذا لا يجب ان يستثير فينا سوى السخرية والسعي لعمل درامي وسينمائي يحمل قيمة تاريخية ودينية صادقة.
آن الاوان للانفعال البنّاء، وللرد بما يفي الغرض، وذلك من خلال صناعة جيدة لأفلام ذات قيمة عن حضارتنا، فكل هجوم وكل ما يبدو إساءةً، فرصةٌ لخلق احترام للإسلام ولقيمه ولخلق تقارب بين الناس. ان كل هجوم وإساءة قد يتحولان وبالاً علينا إن أسأنا التعامل، لأنه سيُقنع من لم يكن يعرف شيئاً عن الاسلام بما هو غير حقيقي.
ولنأخذ بعض الامثلة من الغرب نفسه: عندما أخرج ميل غيبسون فيلمه عن المسيح وآلامه، عُرض الفيلم ولم تقع ردود فعل قاتلة، لا من اليهود ولا من المسيحيين المتدينين، وذلك على رغم شدة المعارضة والتخوف من الفيلم، وعندما قام مخرج آخر في زمن سابق بعمل مسرحية غنائية تحولت الى فيلم غنائي يصور المسيح كمغني روك، احتج المسيحيون المتدينون احتجاجاً هادئاً، ودعوا لعدم رؤية العروض، التي استمرت بعد ذلك زماناً.
منذ زمن أسقط العرب من حساباتهم كل ما له علاقة بالقوة الناعمة، فالسيطرة لاتزال للغرب في المجال السينمائي والعلمي والبحثي والإبداعي، وآخر مرة شاركْنا العالمَ جانباً من حضارتنا الإيجابية كانت من خلال فيلمَي «الرسالة» و «عمر المختار» في سبعينيات القرن العشرين. مصطفى العقاد أخرج الفيلمين المتميزين وسقط قتيلاً مع ابنته وعدد من الناس في تفجير انتحاري في عمان/ الاردن العام 2005. إن غياب المقدرة على الإنتاج المقنع، والإيصال المدروس، والتواصل البناء، واللغة الراقية هو ما ينقص العالم العربي في مجال التأثير، فنحن لسنا في معركة لتنفير الناس وإبعادهم عنا، بل يجب أن نسعى لكسب القلوب والعقول لصالح قضايانا الحساسة واحتياجات بلادنا وضرورات مستقبلنا.
لقد غيّر الربيع العربي الصورة التي ساهم في تشويهها رؤساء وقادة من أمثال القذافي وصدام ومبارك والاسد وعلي صالح. لقد غيّر الربيع العربي جوانب عدة من صورتنا، وأبرز حقيقتنا بصفتنا شعوباً تطالب بحقوق وتعشق الحرية. جاءت ردة الفعل الاخيرة على الفيديو لتعيد إلى الأذهان صوراً نمطية سلبية عن العرب كنا اعتقدنا بأننا في الطريق للتخلص منها. وقد يكون الهدف من الضجة الكبيرة المفتعلة، الانقضاضَ على الحريات الاخرى، السياسية والاجتماعية والفردية، التي حققتها المجتمعات العربية بفضل الثورات. إن السعي لإعادة الاستبداد بعد الربيع العربي سيبقى ضمن محاولات قوًى بعضُها من بواقي الأنظمة السابقة وبعضها يحمل عداءً متأصلاً للديمقراطية وتطورها، وبالتالي يسعى لإعادة المجتمعات العربية الى السياج الذي خرجت منه.
إقرأ أيضا لـ "شفيق الغبرا"العدد 3674 - الخميس 27 سبتمبر 2012م الموافق 11 ذي القعدة 1433هـ